العقيد الطيار اديب عليوي

محلل عسكري

جدلية العلاقة بين السياسة والعسكرة في سوريا خلال المرحلة الحالية (1)

إن جدلية العلاقة بين السياسة والعسكر تنبع انطلاقاً من نظرية مؤداها أنه لا يوجد جدار فاصل بينهما بحسب التعريف.
ولا تقتصر هذه الجدلية على دولة بعينها بل جميع الدولة عانت من ذلك عند بدء نشوء ما يسمى بالمؤسسة العسكرية
إلى أن استطاعت بعض هذه الدول من رسم حدود هذه العلاقة ووضع المحددات والقوانين الناظمة لذلك.
وهذه القوانين تتناسب طرداً مع تطور الدول وتقدمها إلا أن الدول العربية بل ويمكننا القول دول العالم الثالث لاتزال تعيش في دوامة هذه الجدلية ولم تجد لها علاجاً حتمياً حتى الآن.
لكن ظهرت بعض الفروقات بين الجيوش بعد بدء ثورات الربيع العربي فموقف الجيش في تونس مثلاً يختلف عن جيش النظام السوري.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل موقف الجيش في تونس جاء نتيجة للقوانين الناظمة والمحددة له ام هي نتيجة لأسباب أخرى؟
يبدو لي هي لأسباب أخرى يضيق المجال لذكرها ولكن علينا أن ندرك بان معظم الجيوش العربية ودول العالم الثالث لم تنظم العلاقة الإشكالية بين الجيش والسياسة بالشكل الصحيح حتى هذه اللحظة.
وبناء على ما تقدم سيكون هذا المقال هو الأول في سلسلة مقالات نبدئ فيها في محاولة لتتبع جذور أزمة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والأمنية من جهة وبين المؤسسات المدنية ومن ثم نتطرق إلى ما كان معمول به في سوريا من ممارسات خاطئة أفسدت العلاقة بين جناحي السياسة والعسكرة حتى قيام الثورة بحيث نتناول الخلل ومكامن الضعف وهشاشة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والأمنية وبين المؤسسات المدنية واخيراً نتناول أمثلة لبعض الدول التي نجحت في تأطير هذه العلاقة والنظريات التي اعتمدت عليها وكيف نستفيد من تجارب الآخرين وما يناسبنا من هذه النظريات والمقاربات .
والخاتمة هي الشكل المثالي للعلاقة التي نحلم بها ونعمل عليها ونخطط لها في مشروع المجلس العسكري كعلاقة يحكمها الدستور وتنظمها الرقابة والقانون.
أولا: لدراسة جدلية العلاقة بين السياسة والعسكرة والغوص في أعماقها لابد لنا من تتبع جذور هذه الإشكالية وإذا كانت دول العالم الثالث عموماً تعاني من جدلية هذه العلاقة فإن لسوريا خصوصية في هذه الإشكالية منذ اليوم الأول للاستقلال واللحظة الأولى التي تم فيها بناء ما سمي بالمؤسسة العسكرية.
ولتحديد مكامن الضعف لسوريا كدولة هشة نالت استقلالها حديثاً لابد لنا إلا أن نتذكر ما فعلته فرنسا قبل جلاءها عن الأراضي السورية , حيث قامت بضم جيش الشرق وأصرت على دمجه مع الجيش السوري قبل رحيلها.
وجيش الشرق كما هو معلوم أسسته فرنسا بناء على صك الانتداب الذي كان يفرض على دولة الانتداب إنشاء جيش محلي من أبناء المناطق التي يريد الفرنسيون احتلالها بحيث يوفرون غطاء شرعي للقوات المحتلة ويعملون على توطيد الامن والاستقرار لصالح المحتل.
وكانت نواة جيش الشرق من الأقليات (الأرمن والعلويون والإسماعيلية والدروز والأكراد والشركس).
وكانت سمة هذه القوات هو الولاء الكامل لدولة الانتداب ونتيجة الجهل والتخلف لعناصر جيش الشرق في تلك الفترة فقد كانت تتعامل بمنتهى الوحشية مع أبناء جلدتها من السوريين وكان لذلك عظيم الأثر في نفوس السوريين.
ونتيجة لهذا الولاء حرصت فرنسا قبل جلاءها عن سوريا على ضم جيش الشرق ودمجه مع الجيش السوري فكانت هذه الخطوة في بنية المؤسسة العسكرية للدولة التي نالت استقلالها حديثاً.
وإذا كانت البدايات الصحيحة تعطي نتائج صحيحة فإن البدايات الخاطئة سوف تعطي وتكرس نهايات خاطئة بل وكوارث أيضاً.
فكان إخفاق تجربتي الحكم المدني من عام 1946 حتى عام 1949 وتجربة حكم الانقلاب من عام 1949 وحتى عام 1954 مما زاد في انعدام الثقة وزيادة الهوة وحالة التخبط وخاصة بعد أن أقحم الضباط إن جاز التعبير في الأحزاب السياسية مثل حزب البعث والقومي السوري وحزب الشعب والحزب الشيوعي والاتحاد الاشتراكي وغيرهم من الأحزاب فتوسع الشرخ بين المدنيين والسياسيين فيما بينهم وبين العسكريين فيما بينهم.
لقد كانت أغلب الأحزاب والشخصيات السياسية في تلك الفترة يستقوون بالعسكر من أجل تثبيت مواقعهم السياسية.
كل ذلك أدى إلى الدفع بالرأي العام السوري إلى أحضان الوحدة قبل أن تكون فكرتها ناضجة هرباً من تلاعب السياسيين وصراعات العسكريين.
وبدلاً من أن تكون الوحدة مع مصر هي سفينة النجاة وشاطئ الأمان للخروج من حالة الصراع القائمة على الصعيدين السياسي الحزبي والعسكري إلا أنها أصبحت هي بداية لمرحلة جديدة زادت في انحراف البوصلة وخاصة بعد قيام عبد الناصر بحل الأحزاب السياسية وإلغاء دورها في الحياة المدنية إضافة إلى فرط عقد التكتلات العسكرية الحزبية في الجيش ونقل عدد كبير من الضباط المتحزبين والمؤدلجين إلى مصر وتسريح البعض ونقل البعض الآخر إلى مؤسسات مدنية.
وهذا أدى إلى نقمة السياسيين والحزبيين والعسكريين وأعاد من جديد جزوة الطائفية والحزبية التي انكفأت في بداية سنوات الوحدة.
وسرعان ما عادت نيران الطائفية والحزبية للتغلغل من جديد في الجسد السياسي والحزبي والعسكري تدعمهم حاضنتهم المدنية من الطوائف فكان نتاج ذلك تشكيل اللجنة العسكرية في مصر من الضباط: صلاح جديد – محمد عمران – حافظ الأسد (علويين) إضافة إلى أحمد المير وعبد الكريم الجندي (من الطائفة الإسماعيلية) وهذه كانت النواة الأساسية للجنة العسكرية التي توسعت فيما بعد لتشمل ضباط من الدروز والسنة وهي خطة خبيثة للاستفادة منهم واستثمارهم وكسب تأييدهم للوصول إلى مبتغاهم بدءً من الانفصال.
ولكن ومع كل قتامة المظهر وسلبيته قبل الوحدة مع مصر وعلى الرغم من الانقلابات والصراعات إلا أنه كان هناك ما يميز تلك الفترة وهو أن أغلب العسكريين كانوا بعد الانقلاب يقومون بتسليم جزء من السلطة إلى السياسيين (رئاسة – حكومة – المجلس النيابي) فكان الحكم في تلك الفترة عبارة عن خليط بين العسكر والسياسية.
واما بعد الانفصال فأصبح الحكم أكثر عسكرة واكثر طائفية ولكن بغطاء سياسي وحزبي وقد تجلت الطائفية كعنصر أساسي في بنية المؤسسة العسكرية وذلك بعد انقلاب الثامن من آذار الذي اظهر مكامن الخلل المزمنة وبروز هذا الفكر الطائفي وتفوقه وتمدده في المؤسسة العسكرية والبعثية ولعل أهم ما يميز مرحلة ما بعد انقلاب الثامن من آذار هو خوف الطبقة السياسية والعسكرية المتنفذة في تلك الفترة لحدوث شروخ يمكن أن تتسبب في تمزيق النسيج الاجتماعي ولذلك صمتت القوى المتنفذة عن التمدد الطائفي الذي كان يتسارع كالنار في الهشيم مما أدى إلى تقسيم المقسم وتجزئة المجزئ وعلى كافة الأصعدة السياسية والحزبية والعسكرية .
فإذا كان عبد الناصر قد وجه الضربة الأولى للتعددية الحزبية في سوريا بعد حل الأحزاب وفرط عقد مجموعات العسكريين المتحزبين فإن الضربة الثانية للتعددية الحزبية قم بها البعثيين الانقلابين الذي غدروا بشركائهم في انقلاب الثامن من آذار من الناصريين لتصبح دائرة الحكم أضيق وأيضاً أصبحت دائرة الصراع أضيق بحيث انتقل هذا الصراع إلى البعثيين الحاكمين أنفسهم بل وصل إلى اللجنة العسكرية وهم الحكام الحقيقيين وهو صراع النفوذ والسلطة وحسم هذا الصراع في انقلاب 23 شباط عام 1966 حيث استطاعت مجموعة من الضباط من الرتب الصغيرة وهم من الأقليات وهم ( صلاح جديد وحافظ الأسد وعبد الكريم الجندي وسليم حاطوم ) السيطرة على مفاصل الحكم بعد أن جاءوا بمجموعة من القيادات السنية كديكور فقط بلا أي فاعلية وهم ( نور الدين الأتاسي و يوسف الزعين ) وذلك بعد أن تخلصوا من القيادات الحزبية البعثية التاريخية هذا من جهة وتخلصوا أيضاً من الضباط الذين يمكن أن يشكلوا خطراً عليهم بعد أن كانوا شركائهم من أمثال أمين الحافظ ومحمد عمران .
وهنا انحصر الصراع فيما بعد بين صلاح جديد وحافظ الأسد من جهة وبين سليم حاطوم وفهد الشاعر من جهة أخرى وانتهى لمصلحة صلاح جديد وحافظ الأسد وهرب سليم حاطوم إلى الأردن ثم عاد ابان حرب الـ 1967 وتم القاء القبض عليه واعدامه وبات صراع كسر العظم بين القطبين الاقوى صلاح جديد وحافظ الأسد أدى الانقلاب الذي سمي بالحركة التصحيحية في عام 1970.
بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة انتقلت سوريا إلى طور جديد بعد أن تم اختطاف البلد والجيش لمصلحة الدكتاتور الحاكم الذي دمر الحياة السياسية والحزبية.
وفي الختام وبعد هذا السرد التاريخي القصصي لابد لنا من أن نستخلص من مراحل الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينات وإلى يومنا هذا أن نستخلص العبر وأن تكون هذه أمثلة ووسائل إيضاح ونعتبرها أدوات تحليلية مفيدة في سياقها التاريخي وأن نرفضها كثوابت وأدوات منهجية.
ولعل أول هذه العبر هو التأسيس المبني على أساس طائفي للجيش وخاصة بعد ضم ودمج جيش الشرق الذي أسسته فرنسا.
ثانيا أدلجة العسكر ودخولهم الأحزاب السياسية وهذا ما كان سائد في تلك الفترة والذي كان أحد أسباب إخفاق تجربتي الحكم الأولى من عام 1946 حتى 1949 ومن ثم الانقلابات العسكرية من 1949 حتى عام 1954.
ثالثاً قيام الوحدة هروباً من تلاعب السياسيين وصراعات العسكريين إلا أنها كانت وبالاً على سوريا حيث أسست هذه الوحدة لمرحلة أسوأ من مرحلة ما قبل الوحدة.
فإذا كان ضباط الانقلاب من العسكريين في الخمسينات يقومون بتسليم السلطة إلى السياسيين بعد نجاح انقلابهم ويشاركونهم بالحكم فإن الوضع بعد الوحدة كان النقيض تماماً وعلينا ان نعترف بأن سوريا تنفرد في خصوصيتها المبنية على أسس خاطئة وهي التي أسست لجدلية العلاقة بين السياسة والعسكرة.
%d مدونون معجبون بهذه: