
العقيد الطيار اديب عليوي
محلل عسكري
جدلية العلاقة بين السياسة والعسكرة في سوريا خلال المرحلة الحالية(3)

ثالثاً: دستورية العلاقة بين الجيش والسياسة وقانونيتها
تعتبر العلاقة بين السياسة والعسكرة أو بين المدني والعسكري هي علاقة ذات أهمية خاصة ودقيقة لما تحمله من حساسية.
ولم يستطع المشرعون الدستوريون على مر التاريخ من وضع نصوص دستورية وقوانين تضبط العلاقة الإشكالية بين العسكري والمدني بالشكل الأمثل.
فكانت النصوص إما مقتضبة مثل المادة (30) من دستور عام 1950 والتي تنص على أن الجيش حارس الوطن وتنحصر مهمته في الدفاع عن حدود الوطن.
أو تكون النصوص واسعة فضفاضة تحمل تفسيرات وتأويلات تفسح المجال للتصدي لأي تحرك سياسي محتمل مثل المادة (11) من دستور عام 1973 والتي تنص على أن القوات المسلحة مسؤولة عن سلامة الأرض والوطن وحماية اهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية.
ولعل عبارة (حماية أهداف الثورة) من دون قيود أو ضوابط حول كيفية تنفيذ ذلك وتركها كعبارة فضفاضة تتيح للجيش التدخل في الحياة السياسية بحجة حماية أهداف الثورة وخاصة عندما جعلت من الجيش جيشاً عقائديا ولائه لحزب البعث القائد للدولة والمجتمع حسب (المادة الثامنة من الدستور).
ولعل نص المادة (11) من دستور عام 2012 كان مثالاً واضحاً لتحويل الجيش من حماية حدود الوطن إلى قوة قمعية وتدميرية…. وقد جاء في نص المادة (11) للعام 2012 أن (الجيش والقوات المسلحة مؤسسة وطنية مسؤولة عن الدفاع عن سلامة الأرض والوطن وسيادته الإقليمية وهي في خدمة مصالح الشعب وحماية أهدافه وامنه الوطني). وهذا دليل واضح على أن ما يقوم به الجيش حسب المادة (11) من قتل وتدمير واستخدام الأسلحة الثقيلة والطائرات والأسلحة المحرمة دولياً هو عبارة عن خدمة لمصالح الشعب وأهدافه وأمنه.
لذلك نجد أن النصوص الدستورية تحتمل تأويلات وتفسيرات لأنها غير دقيقة وغير واضحة ولا يمكنها ضبط أو تقييد الجيش دستورياً كما في بعض دول العالم والتي نصت دساتيرها على حيادية الجيش الذي يخضع للرقابة المدنية من قبل البرلمان الذي يمثل الشعب والذي يتبع إلى حكومة منتخبة ديمقراطياً.
ومما سبق نستنتج بأن النصوص القانونية في الدساتير السورية منذ الاستقلال وحتى الآن كانت غير كافية لضبط وتأطير العلاقة بين العسكري والمدني بل كانت تتيح للعسكر مساحة أوسع من مهامه مما يجعل الجيش غر حيادي وهذا ما يسبب الكارثة العظمى عندما ينحاز الجيش إلى طاغية أو حزب سياسي أو يقود انقلاباً.
ولعلنا نورد بعض الأمثلة لتكون وسائل إيضاح لنا يمكن أن نستنير بها.
1- ففي دستور الإكوادور نص يقول: لا يجوز ترشيح الأشخاص المذكورين لانتخابات عامة (أعضاء القوات المسلحة – وقوات الشرطة الوطنية القائمون على رأس عملهم)
2- قيد الدستور أحقية أعضاء القوات المسلحة وقوات الشرطة القائمين على رأس عملهم بأن يصبحوا وزراء كما يلي (لا يحق للأشخاص المذكورين أن يصبحوا وزراء دولة)
الدستور الاسباني ينص على ما يلي يحدد قانون الانتخابات أسباب عدم أهلية النواب وأعضاء مجلس الشيوخ، لكل من (العسكريين المحترفين وأعضاء قوات وهيئات الأمن والشرطة خلال تقلدهم لمناصبهم)
وأجاز الدستور الإيطالي وضع قيود على العسكريين وضباط الشرطة بأنه لا يحق لهم المشاركة بالعضوية في الأحزاب السياسية
هذه بعض الأمثلة للقيود الدستورية لضبط العلاقة بين الجيش والسياسة وهناك قوانين تنص عليها دساتير هذه الدول مثل عدم جواز استخدام العسكريين لمناصبهم أو وظائفهم وعدم التدخل في الأمور السياسية بالإضافة إلى عدم الاستفادة من امتيازاتهم على حساب حقوق الأشخاص.
وهنا لابد لنا من الاستعانة ببعض النظريات التي وضعها مفكرين غاصوا في تفاصيل العلاقة بين العسكر والسياسة وهم أيضاً ممن ساهموا في مؤلفاتهم وأبحاثهم للوصول إلى الصيغة الأفضل لضبط هذه العلاقة:
1- نظرية Samuel Huntington وهو صاحب كتاب الجندي والدولة حيث سعى في نظريته إلى فك لغز إشكالية العسكر والمدنيين وكيف يمكن كسب رهان إبقاء العسكر على الرغم من قوتهم تحت سيطرة المدنيين وذلك من خلال تحويل الجيش إلى جيش محترف مع تطوير نسق علاقات عسكرية – مدنية القادرة على ضمان الحد الأقصى من الأمن العسكري بحد أدنى من التضحية ببقية القيم الاجتماعية
2- نظرية Samuel finer: وهو يرسم في نظريته الشبكة المعقدة بين العسكري والمدني والمؤسسة على خلفيات الجيش والسيسيولوجيا والأنثروبولوجيا والتاريخية
وهو يحدد مفهوم الاحترافية العسكرية، إذ لا تقوم نظرية في علم العلاقات المدنية – العسكرية من دون تأسيس مفهوم احترافية الجيش
3- نظرية جانويتس : إن لب وجوهر مقاربة جانويتس السيسيولوجية تنطلق من ضرورة توظيف العوامل الاجتماعية والثقافية لنشر ثقافة تقدم المدني وأسبقيته على العسكر معولاً في ذلك على الجندي المواطن في مقابل الجندي المحارب حيث يقلل من أهمية الاحترافية العسكرية في حفاظ العسكري على مسافة أمان من التدخل السياسي , ويضع في مقابلها ( القيم الثقافية ) كعنصر أساسي في تغيير العلاقات المدنية – العسكرية .
4- نظرية Mehran Kamrava: إن أهم ما يميز نظريته هو أنها مخصصة للعلاقات المدنية والعسكرية في الشرق الأوسط وشمال افريقيا وصنفها كما يلي :
أ- صنف الضباط السياسيين المستبدين
ب- صنف الملكيات المؤسسة على القبلية
ت- الجيوش ذات التبعية المزدوجة
5- مقاربة Zoltan Barany: وتختلف هذه المقاربة عما سبقها في أنها اهتمت بالجيش في لحظة الثورة وقدمت نموذجاً للخبراء للتنبؤ بردات فعل الجيوش على الثورات
طبعاً اتهم باراني الخبراء والباحثين بالعجز عن التنبؤ بحدوث الثورة وبالتالي العجز عن التنبؤ بردات فعل الجيوش عليها.
إن مقاربة باراني كما وصفها الكثيرين بانها نظرية متكاملة ومتماسكة.
ويمكن أن نستخلص مما سبق أنه يمكننا الاستفادة من دساتير وقوانين الدول السباقة في تصحيح العلاقة بين العسكري والمدني مع الاعتماد على النظريات والأبحاث والدراسات التي قام بها العديد من المفكرين واستخلاص ما هو مناسب أو ما يناسبنا.
وإذا كانت فترة الانقلابات التي حصلت في سوريا قد قتلت ثقة المدني أو السياسي بالعسكري لأنه يشكل عليه خطراً محدقاً بوجوده وبسلطته وفي المقابل فإن العسكري لا يثق بالمدني لأنه يشكل له تهديداً كامناً لمكاسبه وامتيازاته المادية والمعنوية.
وبناء عليه فيجب على النخب السياسية والفكرية والقانونية العمل على إعادة الثقة بين الطرفين وذلك من خلال الدراسات والأبحاث للوصول إلى تشريعات تكون مقدمة لقوانين ناظمة لتصحيح جدلية هذه العلاقة وبناء أسس جديدة للاستفادة من نظريات وقوانين وتجارب الدول التي سبقتنا في تجاوز هذه الإشكالية وإيجاد الصياغة المناسبة.