حسن النيفي

باحث وكاتب سوري

اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف -خديعة الدستور واستمراء الوهم

فيما يستمر نظام الأسد وحلفاؤه في حربهم على السوريين والإمعان في تعزيز مأساتهم، تستمر كذلك الكيانات الرسمية للمعارضة السورية الاستمرار في أداء دورها الوظيفي في استلهام ما يمليه المُشغّل الخارجي، وقد وصل التناغم في أدّاء الأدوار إلى درجة قد تثير أكثر من تساؤل، إذ لا أحد يدري ما الحكمة الكامنة في إصرار وفود المعارضة في اللجنة الدستورية على استمراء الوهم؟ إذ في الوقت الذي يجاهر فيه نظام الأسد في رفضه المسبق لأي مُخرَج محتمل للجنة الدستور، باعتبار أن الوفد الذي يشارك من دمشق لا يمثل الحكومة السورية، بينما يصرّ السيد هادي البحرة وفريقه بأن الجعجعة القائمة في جنيف هي طحين دسم، إذا كان نظام الأسد يهدف من خلال مشاركة وفده في جنيف إلى مشاغلة الرأي العام العالمي، وإيهامه بأنه متفاعل مع العملية السياسية، فما الذي يشاغله البحرة وفريقه، وأيّ جهة يحاولون إيهامها بجدوى مشاركتهم؟ هل هم السوريون الذين تمطرهم طائرات الأسد وحلفاؤه الروس بقذائف الموت، أم النازحون في المخيمات الذين يواجهون شتى أشكال الذل والشقاء؟

ليس بدعة في التاريخ الحديث للعالم، أن تتناقض العقائد والشعارات، ولكن في الوقت ذاته تتماهى طرائق التفكير ووسائل التنفيذ بين تلك المتناقضات، وهذا غالباً ما يحدث بين المنظومات ذات التوجه الشمولي أو الكوني، فعلى الرغم من التناقض الذي يصل إلى درجة التضاد بين الشيوعية والإسلام السياسي – على سبيل المثال – إلّا أنهما يتفقان إلى درجة التطابق فيما يخص طرائق التفكير وآليات العمل وطرائق السيطرة، إذ كلاهما يدّعي احتكار الحقيقة المطلقة، وكلاهما إقصائي يرفض التغاير، وكذلك كلاهما يسعى إلى تنميط البشر، أي تحويلهم إلى كائنات مُفرغة من حيويتها وثرائها الإنساني. ومن هنا يمكن أن تتلاشى الغرابة لو مضينا نبحث في الاستراتيجية التي حفر لها آل الأسد في سورية، ثم ما لبثت أن تجذّرت ثم أفرعت، ليس في أنساق السلطة الأسدية فحسب، بل في أوساط تدعي أنها على الطرف النقيض، ولا غرابة في ذلك، فالوباء ليس له ديار خاصة، بل ينتشر ويتنامى أنّى تواجدت عوامل نموّه وازدهاره.

حكم آل الأسد السوريين ما يقارب نصف قرن، وقد بات لهم إرث من السمات الإستراتيجية التي لم تفارق إعلام السلطة الأسدية يوماً واحداً ( لا تفريط بشبر واحد من الأرض – الصراع مع إسرائيل صراع وجود وليس صراع حدود – الرد على العدو في الزمان والمكان المناسبين – لا سلام مع الكيان الصهيوني طالما بقي شبر من الأراضي العربية تحت الاحتلال ….إلخ ) ولئن كانت جميع تلك الشعارات مُستمدة من حالة الصراع مع إسرائيل، فضلاً عن أنها تجسّد الرصيد النضالي لآل الأسد، فإن هذا الرصيد سرعان ما تحوّل إلى نداء استغاثة واستجداء على لسان رامي مخلوف – قبل خلافه مع ابن عمته – مناشداً إسرائيل كي تحمي النظام من السقوط، وكذلك سرعان ما تحوّل (الأمن القومي العربي) الذي يناضل آل الأسد في سبيله، إلى أمن نظام الحكم الذي يتقوّم على عدد من الأفراد، وهكذا تتحوّل إستراتيجية المقاومة التي أنتجها نظام الأسد خلال نصف قرن، إلى نداء استغاثة وتوسّل للحفاظ على المصلحة الأمنية لنظام الحكم . وفي سياق مماثل، يبدو تعاطي المعارضة الرسمية السورية مع القرارات الأممية الخاصة بالقضية السورية مماثلاً لتعاطي  نظام الأسد مع القضايا التي كان يعدّها مركزية بل ومصيرية بالنسبة إليه، ذلك أن القرارات الأممية ( جنيف 1 – 2118 – 2254 ) تشير بوضوح متفاوت فيما بينها إلى أولوية ما هو جوهري في العملية السياسية، واعني تشكيل هيئة حكم إنتقالي كاملة الصلاحيات، بحيث تكون هذه الهيئة هي المرجعية لكتابة الدستور، ومن ثم الانتخابات التي من المفترض أن تكون تحت إشراف أممي. ربما كان بديهياً ألّا يتوقع السوريون أن يستجيب نظام الأسد للتفاعل مع القرارات الأممية، بل ربما كانت معرفة السوريين بطبيعة النظام الذي أذلّهم طيلة نصف قرن تؤكّد استحالة تخلّيه عن الحل الأمني الذي لا يمتلك سواه، وكان للسوريين أيضاً أن يتوقعوا شتى أشكال الالتفاف والاحتيال والمماطلة من جانب النظام، وهذا ما حدث بالفعل، ولكن ما لم يتوقعه السوريون أن تندفع أجسام المعارضة الرسمية لمجاراة النظام، بل ربما لاستباقه إلى التخلّي عن حقوق للسوريين قد أقرّها المجتمع الدولي عبر مؤسساته المعروفة ( هيئة الأمم المتحدة وأداتها التنفيذية الممثلة بمجلس الأمن)، ولم يكن هذا الإقرار هو هبةً للسوريين أو منّة من أحد، بل جاء نتيجة لتضحيات هائلة قدّمها السوريون على مذبح الحرية، فما الذي أتاح لهياكل المعارضة السورية التخلّي بسهولة والتنازل عن حقوق مصيرية دفع السوريون ثمنها دماء وتشرّداً ونزوحاً؟ وذلك بدءاً من القبول بفكرة ديمستورا حول تقسيم الحل السياسي إلى سلال أربع في 23 شباط 2017 أثناء لقاء جنيف الرابع، مروراً بتحييد ثلاث سلال وإبقاء واحدة، وصولاً إلى الابتعاد الكلي عن جوهر القرارات الأممية والانصياع لرؤية بوتين المتمثلة بمخرجات سوتشي( مؤتمر حوار وطني يعقبه تشكيل لجنة لكتابة دستور للبلاد أو تعديل الدستور الحالي)، وهكذا تنتهي القضية السورية إلى اختزالها في محاولة لكتابة دستور، تحت إشراف وهيمنة إقليمية لا دور للسوريين في تشكيلها أو اختيار أعضائها. ولا ينحصر مسار التماهي مع رؤية نظام الأسد في تجاوز الحقوق السياسية، بل لعل الأمر يبدو أكثر فداحةً فيما يخص القضايا الإنسانية، وفي طليعتها قضية المعتقلين والمغيّبين في سجون النظام الذي فاقت أعدادهم مئتي ألف معتقل، إذ تكفي الإشارة إلى أن البنود الإنسانية التمهيدية للقرار 2254 تنص على ضرورة الإفراج عن المعتقلين وفك الحصار عن المدن والبلدات المحاصرة وإيصال المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها، كشرط واجب قبل الشروع في أي خطوة تفاوضية، فما الذي دفع مفاوضي المعارضة إلى التخلي المطلق عن جميع ما تم ذكره؟ بالطبع لا تتردد كيانات المعارضة، عن تصدير جوابها المعهود: إننا لا نتردد بالمشاركة والاستجابة لكل ما يُطلبُ منا حرصاً على دماء السوريين وسعياً إلى تخفيف معاناتهم. بينما ثمة صدى لهذا الجواب يقول لهم: لقد تخليتم وتنازلتم عن كل شيء ولم يك تفريطكم حائلاً دون إراقة قطرة دم واحدة، أو رادعاً دون نزوح سوري واحد، أو دافعا لإخراج معتقل أو معتقلة واحدة، وها أنتم وفي اللحظة التي تجلسون فيها مع ممثلي نظام الأسد على طاولة واحدة لتكتبوا دستوراً للبلاد، لا تتوانى الطائرات الروسية عن قتل الأطفال السوريين في أريحاً وهم ذاهبون إلى مدارسهم، فلمن إذاً سيكون الدستور الذي تكتبونه، وهل سيحفظ دماء السوريين وحيواتهم، أم سيكون غطاءً للإجهاز على ما تبقى من أرواحهم؟

لعله من الصحيح أن نظام الأسد وحلفاءه استطاعوا بعد عشر سنوات و أشهر، أن يمعنوا قتلاً وتهجيراً واعتقالاً بالسوريين، كما استطاعوا أن يحافظوا على استمرار الأسد في السلطة رغم فظاعة جرائمه، تحت أنظار المجتمع الدولي المحكوم دوماً بمصالحه التي لا تتماهى بالضرورة مع الأبعاد الإنسانية والقيمية للثورة السورية، إلّا أنهم جميعاً – الأسد وروسيا وإيران –  يدركون في قرارة أنفسهم أن تفوّقهم الوحشي والإجرامي على الشعب السوري لم يؤد إلى انتصارهم على إرادة السوريين وقتل نزوعهم نحو التحرر والتغيير، وهذا ما يجعلهم بحاجة مستمرة إلى معارضات لا تتوانى عن الصراخ وكيل الشتائم للنظام واتهامه بالموبقات، ولكنها تتماهى معه من حيث طرائق التفكير و السلوك ، وفي الوقت الذي تحاول فيه لجنة الدستور استكمال ما تبقى لها من دور، وهي تلفظ أنفاسها، فإن جمهور الثورة في الضفة الأخرى، له كلام آخر.

%d مدونون معجبون بهذه: