محمد أمين كركوكلي

سياسي سوري – ماجستير اقتصاد- رئيس حزب بناة سوريا

إدارة الدولة بأخلاق السياسة…أم بسياسة الأخلاق {الفارق بينهما}

كثيراً من العاملين بالحقل السياسي اليوم يرون أن إدارة الدولة والشؤون العامة يجب أن لا تنظر للعامل الأخلاقي بعين الجدية الكاملة ولكن فقط لتجميل الأهداف التي يرسمها السياسيون للوصول الى أهدافهم المخططة وعندما تتعارض الأخلاق مع التعاطي السياسي تنحى الأخلاق جانباً ويتم الوصول الى الأهداف مهما كانت التبعات على المجتمع والدولة , وأحياناً يتم الوصول في هذا المسار الى القتل والاعتقال لمجرد إبداء الرأي المخالف وهدم البنى التحتية واعمال الهدم الممنهج…كما شهد التاريخ في كل الأنظمة الديكتاتورية ونظم الاستبداد في العالم وشاهده الواضح اليوم ما يحصل في بعض الدول العربية وخاصة سورية وما جرى لها ولمواطنيها من قتل وسجن وتهجير.

همنا في هذه المقدمة أن ننظر إلى مسألة اتصال الأخلاق بالسياسة أو انفصالها عنها من زاوية عملية متعارف عليها، لنُنعم الرأي في حقلين يختلفان نظريا، لكون السياسة لا تعني فقط تسيير الدولة للمجتمع بطريقة عمودية، بل تعني أيضا تأسيس مجموعة سياسية، تستند إلى علاقات أفقية يمكن أن توجد بين المواطنين، والتزامهم داخل الفضاء العام.

بعضهم يرى أن السياسة القائمة على الأخلاق هي أفضل السياسات الممكنة، فالأخلاق هي الشرط الأساس لجعل سياسة ما عادلة، ولا يتصورون أن تكون السياسة كذلك إذا خالفت أبسط القواعد الأخلاقية كالصدق والأمانة والأثرة.

فإذا كانت السلطة السياسية تدار عن طريق التفويض، وهو النموذج المؤسسي الأكثر استقرارا في الديمقراطية التمثيلية، فإنها تستوجب الثقة، لأن المواطنين لا يمكن أن يعهدوا بإرادتهم إلى نوّاب إلا إذا كان هؤلاء يمارسون عهدتهم بأمانة، ويسعون حقا للصالح العام، ويعبرون في أقوالهم وأفعالهم عن إرادة المواطنين، دون أن يستغلوا موقعهم لخدمة مصالحهم الشخصية.

ومن ثمّ فالأخلاق في رأيهم ضرورية لممارسة السلطة السياسية لكي لا تنحرف عن غاياتها، فتغدو خاضعة للأهواء، وتتحول إلى أداة لتحقيق أهداف شخصية، لأن السياسة الجيدة هي سياسة عادلة، وبذلك لا يمكن للسلطة السياسية أن تمارَس دون أن تستند إلى تحديد دقيق لما هو حق، أو جيّد، أو عادل، وتلك غاية الأخلاق.

فريق ثان يعتقد أن السياسة تعني مجمل المؤسسات والأعمال التي تنظم المجتمع، وتسمح للدولة بتسييره وتوجيهه الوجهة المناسبة، ما يعني أن هدف السياسة النجاعة، كأن تعمل على تجنّب النزاعات أو حلّها، والسير بالمجتمع نحو غاية تحددها الدولة. ومن ثمّ، فالسياسة الجيدة هي سياسة فعّالة في المقام الأول، تنتج الآثار المرجوة أو المنشودة، ولا سبيل عندئذ إلا بفصل الأخلاق عن السياسة، لأن مهمة السياسة في رأي هذا الفريق هي التصرف في شؤون الدولة، بينما الأخلاق هي من مسؤولية الأفراد، فليس بالعواطف النبيلة تحقق الدولة ما ترجو، لاسيما في غياب مبادئ أخلاقية كونية وموضوعية يلتقي حولها الجميع.

ولا مجال عندئذ إلا بتخيّر أحد أمرين: إما إقصاء الأخلاق من الحقل السياسي، وإما استبعاد السياسة عن الأخلاق لكي تضمن فعاليتها، استنادا إلى ما نظّر له الكثير من سياسي اليوم حين وقفوا بوضوح مع الجدوى ضد الأخلاق، حجتهم في ذلك أنه لما كانت غاية ممارسة السلطة هي الاستقرار، فإنها تبلغ تلك الغاية بالقوة لا بالعدل، والخير في رأيهم ألا يفي الحاكم بوعوده إذا لم تكن الظروف ملائمة، أو أن يضحّي ببريء عند الضرورة لإقرار السلم الاجتماعي.

بيد أن السياسة ليست ملكا للدولة وحدها بل للكيفية التي يشارك بواسطتها المواطنون أيضا، وأفضل السياسات الممكنة ليست الأنجع ولا الأعدل، بل تلك التي تكون قادرة على تكوين مدينة حقيقية والحفاظ عليها. وبذلك تغدو الأخلاق ضرورية لوجود المجموعة السياسية، فالسياسة في الواقع لا تعني فقط مجمل الوسائل والمؤسسات التي تحكم الدولة بواسطتها، كما أن السلطة لا تمثل السياسة إذا قامت على القوة وحدها، بل لا تكتسب شرعيتها إلا بقبول المواطنين بها.

ومن هنا تكون أفضل السياسات هي تلك التي تسمح بخلق مجموعة، أي كيان سياسي يستند إلى روابط المواطنين في ما بينهم، والتزام كل واحد منهم بالحفاظ عليها. ولا يمكن لذلك الالتزام أن يتم إلا عندما يقبل كل فرد بعدم تلبية مصلحته الخاصة بشكل آلي، والتخلي عنها لفائدة المصلحة العامة. فلا سياسة حقيقية من دون التزام حميم لكل فرد نحو المجموعة التي ينتمي إليها، واقتناع الأفراد جميعا بانتمائهم إلى مجموعة. وهذا ما ندعوا اليه بحيث يكون هناك  توافق حول مفهوم للعدل يمرّ عبر نقاش عام تضع إثره المجموعة الوطنية المبادئ المشتركة للعدل بصرف النظر عن القناعات الأخلاقية المختلفة لهذه الفئة أو تلك.

وصفوة القول إن الأخلاق هي أفضل السياسات، فهي شرط أساسي لوجود مجموعة سياسية حقيقية، ينجم عنها كل ما هو خيّر، فشرعية ممارسة السلطة، وعدالة السياسات المتبعة، ونجاعتها، يمكن أن تحظى عندئذ بانخراط كل فرد في المشروع المشترك لكافة مواطني الدولة.

%d مدونون معجبون بهذه: