بهية مارديني

كاتبة و إعلامية سورية

 

العقد الاجتماعي في سورية وسبر أغوار  الهوية

دعاني النقاش الذي دار ويدور حول العقد الاجتماعي للخوض في معترك الهوية السورية وسبر اغوارها ..

ربما عاب البعض على ان الربيع العربي قد ايقظ الفتنة من مرقدها وبث الخلاف بدلا من توحيد الكلمة , وشعر الناس بقلق على وحدة البلاد وتماهي هوياتها في ظل طروحات محدثة لم يألفوها بل كانت اذانهم تعتبرها من المحرمات الموبقة  ، وطبيعي الا يكون الربيع العربي هو السبب بل ان القمع والاستبداد الطويل الذي مر على الأقطار العربية كان السبب في دفن هذه الحيوية وكيل التراب على أي نقاش جدي ، وعلى طريقة “نحن نفكر عنك” احالت الطغم الحاكمة بلادها الى حالة موات سريري وصحّرت مجتمعاتها وأممت السياسة والثقافة فأصبح اللون الواحد هو السمة العامة ، فأسوة بالقائد الواحد هناك الحزب الواحد والصوت الواحد والشعب الواحد واللباس الواحد  .. فانتفى الاختلاف وتحول الناس الى أشباه ناس بل الى ارقام لنسخة مكررة ممجوجة ..لكن الطبيعة البشرية المجبولة على الحيوية والنقاش والبحث عن الحقيقة والكمال أبت ان ترضخ لهذا الواقع فعاشت في انفصام للشخصية بين ما هو معلن و ما هو سري ، واصبح لكل انسان او عائلة شفرتين ، الأولى سرية يعيش فيها في بيته وبين أقربائه وأصدقائه والأخرى عامة لمدرسته وجامعته وعمله .. فعاش الغالبية في غربة وخوف من الآخر،  فتحولت سورية كما وصفها الدكتور عبد الرزاق عيد الى مملكة الخوف ..

في سورية كان الأمر مضاعف والأعراض أخطر بسبب التنوع الكبير للمجتمع السوري العرقي والمذهبي والديني والطبقي بل حتى البيئي والثقافي .. لهجات متنوعة وطعام مختلف ولدينا الصحراء والجبل والنهر والبحر والسهل ..لكن هذا المجتمع الذي يضج بالحيوية تم اخماده ” بالبوط العسكري ” بحجة التحديات والمعركة التي لا يعلو صوت عليها وبحجة شعارات مثل “عصابات الاخوان المسلمين” و”حثالة المجتمع المدني” واستكبار الغرب ..واي شكاية مهما كانت بسيطة من قبيل عدم توفر البندورة او الخيار او حتى زحمة المرور .. يكون الجواب “ألا تعلم أننا في حالة حرب يا رفيق” .

ان النظام السوري الذي قدم نفسه للعالم بصفته نظاما علمانيا وحكم السوريين بواجهة حزبية ادعى فيها انه يحارب الطائفية والقبلية والعشائرية ..الا انه غذى كل ما يثير تلك النعرات الطائفية والمذهبية والعشائرية بممارسات فئوية غرائزية هدفت الى تقسيم المجتمع واضعافه ليسهل السيطرة عليه ويسهل حكمه على طريقة (فرق تسد ) .. فهذا المجتمع العلماني أصبحت كل طائفة او جماعة  فيه مسؤولة عن أبنائها طالما كانت موالية ومطيعة فتحول السوريون الى رعايا و انتشرت المحسوبيات و توزعت المسؤوليات و المناصب على الطريقة اللبنانية (ستة بستة مكرر) انما بشكل غير معلن او مقونن .. واي محاولة من النخب والمعارضة لانتقاد هذه الأوضاع فان محاكم أمن الدولة “الاستثنائية “بانتظارك بذات الجرم الذي انتقدته ! فان دافعت عن الاكراد في حقهم بالتحدث بلغتهم ستوصف بانك عميل لدولة اجنبية وتريد اقتطاع جزء من الأراضي السورية وإن طالبت بمحاربة الطائفية ستكون طائفيا  وإن انتقدت العشائرية والشللية ستكون قبليا رجعيا متخلفا وان اردت الحديث عن الإسلام السياسي فأنت تكفيري جهادي سلفي خارجي إرهابي   ..

اذن ما الدولة المطلوبة لاستخلاص الوجه الحقيقي للدولة , الدولة العلمانية ام الدولة المدنية ؟

دولة الخلافة او على الأقل دولة بمرجعية إسلامية ..

الجمهورية العربية السورية ام الجمهورية السورية

الديمقراطية ام الشورى

دولة بنظام برلماني اكثري ام دولة بنظام رئاسي

علم بلون احمر ام اخضر

دستور عام 1950 ام 1973 ام دستور جديد

جمهورية ذات طابع مركزي ام دولة فيدرالية

دولة لامركزية إداريا ام دولة لامركزية سياسية ( لامركزية الجيش والشرطة والعلاقات الخارجية)

انتماء سورية عربي ام إسلامي ام شرق اوسطي ام عالمي ام اممي ام فضائي ..

هل سورية بلد نهائي ؟

وغيرها من العناوين الرئيسية المختلف عليه بمرحلة قبل الدولة ..نحن لا نتحدث هنا عن خلافات حزبية او اقتصادية ؟ عن ليبرالية او اقتصاد السوق ..بل نتحدث عن أمور مصيرية ستؤثر على شكل البلد وهويته بل وتصادر حق الأجيال القادمة في أي خيار ..ألاف الساعات ومئات المقالات والكتب والأبحاث وعشرات المؤتمرات التي عقدت لبحث تلك القضايا, وتبقى الحقيقة الناصعة ان السوريون وخاصة من يعيش داخل المعتقل المسمى بسورية او بالأحرى الرهائن السوريون هل هم معنيون بهذا النقاش ؟ هل يهمهم فعلا اسم الدولة او علمها ؟ هل يهمهم الدستور ومواده ام يهمهم تطبيق الدستور ؟ لطالما كانت الدساتير السورية من ارقى الدساتير في العالم ولطالما كانت المنظومة القانونية والقضائية والتشريعية السورية رائدة على المستوى الدولي ولطالما رفعت رأسي بعزيز شكري وجورج جبور وفهر شقفة وهشام فرعون وغيرهم من اساتذتي بالمحافل الدولية ..

هل كانت المشكلة في الدستور السوري ام بحالة الطوارئ والاحكام العرفية المفروضة على البلاد من عام 1962 –وجددت ب 8 اذار 1963 ثم تحولت الى قانون الإرهاب وحالة الإرهاب فعطل القانون ووقف العمل بالقضاء..هل مشكلتنا بالقضاء والمحاكم أم بالمحاكم الاستثنائية من أمن دولة وأمن اقتصادي ومحاكم عسكرية تتدخل بكل قضية ومحاكم ميدانية وقتل واعدام خارج القانون وإخفاء قسري وخطف ورهائن وتعذيب ..

لطالما نص الدستور السوري على ان سورية جزء من الوطن العربي الكبير ولطالما عرف حزب البعث نفسه بأنه عربي اشتراكي ولطالما كان شعاره الأول, الوحدة  وكان نشيده يبدأ بشباب العرب ..ولطالما اتهمه معارضوه بالشوفينية والقومجية ..لكن بالحقيقة لطالما قام هذا الحزب بمحاربة كل ما هو عربي ..ولطالما كان شوكة حادة في خاصرة أي تقارب عربي بدءا من مناصرة ايران بحربها مع العراق العربي في شرق الوطن العربي المحكوم من ذات الحزب البعثي العربي وانتهاء بمناصرة جبهة البوليساريو (الانفصالية) والداعية لتشكيل الجمهورية الصحراوية في غرب هذا الوطن ..ناهيك عن تسليم الاحواز لإيران رغم ان البعث يدرس بمدارسه ان عربستان عربية ..

ولن نتحدث هنا عن قضية البعث المركزية ,أي فلسطين . والتي قتل النظام السوري من أهلها وقادتها الكثير ولعل مجزرة تل الزعتر في لبنان نموذجا وإخراج الراحل ياسر عرفات من طرابلس الى تونس مجردا من سلاحه منهجا لتعامل النظام السوري مع قضية فلسطين .

ان الفصام بين المعلن والممارس او بين المأمول والواقع لا يقتصر على الدول الشمولية بل يشمل أيضا تلك الدولة التي اعتقدت نفسها انعتقت من حقبة الاستبداد بلا رجعة ؟ هل دولة جنوب السودان حققت شعاراتها التي رفعتها أيام النضال والدعوة للانفصال عن السودان من عام 1983 أيام (جون قرنق) ؟ ام انها غرقت في اقتتال داخلي ومستنقع من الدم يسفك على الهوية من بدء الانفصال للان ؟؟

وهل الوطن حقوق ام حدود ؟ هل الوطن علم ام كرامة ؟ هل الانتماء شعور ام ممارسة ؟

وبالعكس نجد ان الدول المتقدمة في اوربة الغربية والولايات المتحدة لا تعاني من هذه الظاهرة رغم ان اغلب شعوبها مكون من جاليات واثنيات مختلفة .. ان اغلب تلك الدول وخاصة الاسكندنافية منها محكومة بنظام ملكي دستوري  و فيها أحزاب مسيحية بمرجعية مسيحية تمارس السياسة وأخرى ملحدة ولم تشهد أي صراع طائفي او عرقي او مذهبي  ..بل هناك دول مزدوجة اللغة كبلجيكا وهولندا بل ان سويسرا فيها اربع لغات رسمية ..يعيش في المانيا حوالي أربعة ملايين الماني من اصل تركي ..وفي بلغاريا هناك مليون بلغاري تركي من اصل ستة ملايين بلغاري ولم تطرح أي تساؤلات عن الهوية  ..بل تظهر مسألة الهوية للسطح مثل هوية المسلمين في فرنسا عند الحيد عن العقد الاجتماعي الجامع لشعوب تلك الدول حيث تخلي الرئيس ايمانويل ماكرون نفسه عن القيم الفرنسية باحترام التنوع إرضاء لليمين . رغم ان هوية المسلمين بفرنسا ليست هوية واحدة بل هويات كثيرة مذهبيا وعرقيا كما انها لم تصل للمطالبة بأي مكسب سياسي ( كوتا – انفصال- حكم ذاتي ..)

ان الرخاء الاقتصادي والحريات وممارسة السياسة والشعور بالمواطنة وبأن أي شخص له يد في قرار بلده وانه يصنع مستقبله بنفسه ويشارك في قيادة مستقبل بلده يجعل القضايا الأخرى ليست قضايا ذات أولوية ..ان سورية التي لن يعيش أبناؤها يوما في ظل حكم ديمقراطي ولم ينعم أهلها يوما بالاستقرار والأمن والأمان ولم يتذوق مرة الرفاه والنعيم ..هذا الشعب الذي لم يتعرف على بعضه ولم يكتشف الجار جاره مدعو الآن لأن يعطي نفسه فرصة بالتعايش مع كل اختلافاته وخلافاته عسى ان تكون هذه الاختلافات عامل اثراء وتنوع وقوة بدلا من كونها عامل فرقة وتباعد ..حقيقة انا لا أحاول القفز على التحديات الموجودة حاليا بمراهقة فكرية واعترف فعلا ان قضية الشعور والانتماء تشكل هاجسا لدى الكثيرين ..كما انني لا أحاول مطلقا الإلتفاف عن خوض النقاش والبحث في التفاصيل . وتفصيص كل بند وكل طرح او شعار ..فربما لا يتسع الفضاء الالكتروني لذلك وربما من المبكر البحث عن جنس الملائكة قبل ان نضمن الجنة ..قبل ان يكون لنا بلدا حرا شعبه حر و افراده أحرار ..لا يمكن لشعب محروم من الخبز أن يبدأ طعامه بالكاتو ..

بل هذه صرخة للتركيز على تغيير النظام أولا..والافراج عن المعتقلين والمختفين قسريا ثانيا ..ودعوة لعودة السوريين من لاجئين ومهجرين ونازحين ومنفيين قسرا او طوعا الى بلدها ثالثا وبعدها لدينا كل الوقت تحت سماء دمشق لنقاش كل القضايا وبحث كل الخلافات ونحن نتنفس هواء الحرية .

 

%d مدونون معجبون بهذه: