
أحمد البرهو
كاتب و شاعر سوري
نص سردي… منظومة الدفش السوريّة
مثل كل الشعوب الاشتراكيّة، كان السوريون يركضون باتجاه الفرن منذ الصباح الباكر من كل يوم، للمشاركة في كرنڤال كبير، وممارسة رياضة جماعيّة، أمام طاقة (كوّة) الخبز!
(التدافع) الذي يسمّيه السوريون: (مدافشة) كان النشاط الاجتماعي الذي تمارسه طوعاً، أو كرهاً، كافة فئات المجتمع، أطفال وشيوخ، رجال ونساء، موظفون وعمّال وفلاحون، بمعدّلٍ، أقلّه، شخص واحد منتدب عن كل عائلة، يتولى تمثيلها في سيرورة الحراك الثوريّ للدولة والمجتمع.
فرن الخبز كان جامعة عريقة، تمنح طالبي الخبز تدريباً عمليّاً، حيث ينال كل متدرِّب ومتدرّبة ما يحتاجونه في شتّى مجالات العمل، فالموظف يتعلم كيف يدفش زميله، ليعلو في الرتب، وينال رضى المدير، والطالب كيف يغلب الطلاب ويحصل على الدرجة الأولى، والمقعد الأول، والعامل والفلاح، و.. حتى المرأة يمكنها أن تنال دروسا من مهارة الكيد بمنافساتها.
لم يكن يبخل الفرن بعلومه على أحد، بل كان مركز تعليم مهني مجاني، قدّم آلاف دورات التنمية المجتمعيّة، لإنتاج البطل الذي هزم الجميع، فحصل على شهادة: (دافش أوّل بتقدير امتياز)!
أمام الفرن، دائما ثمة لحظة تاريخيّة في مسيرة الأمة، والأسرة أنموذج عنها، تحدد تلك اللحظة توجه الفرد منذ صباحه الباكر، وتلقي على كاهله مسؤولية ضخمة لا ضمانة لها إلا: قدرته كفرد ثوريّ قادر على دفش كلّ من يمكن أن يكون عائقاً في سبيل الوصول إلى طاقة الخبز، الأمر الذي يمنحه تصوّراً واضحاً عن بناء العلاقات المجدية، أو غير المجدية، في معركة السعي نحو الهدف، فيما سيتكفّل مدى قرب الفرد أو بعده عن طاقة الخبز تقديم تفسير وافٍ للحظة التاريخية الراهنة، ويحدد موقع الفرد في الطبقة الاجتماعية!
فالمتدافشون على ثلاث طبقات خلف القائد:
-في مؤخرة المعركة: طبقة موسومة بالكسل وبالجهل، أو بقلة الذكاء، أو سوء الحظ، حيث لا يفتأُ يتوجه إليها الإعلام بالنصائح، وبرامج التعليم بالإرشادات، نحو ذلك من محفّزات غالبا ما تكون تقريعاً يشبه طعم الاستماع إلى قصيدة عن الأرض، كتبها شاعر يسكن في الطابق السابع، أو تشبه معاني كلمات يلقيها عضو منتدب عن جبهة وطنية تقدميّة في مجلس الشعب، أمام قاعدة شعبية غفيرة، لا ينتظر منها صوتاً واحداً في صندوق الانتخابات!
إنّ من الظلم أن تسمي هذه الطبقة جمهوراً، بل هم الأيتام الذين لم يبلغوا بعد سن الوعي الانتخابي، ولن يبلغوا!
-الطبقة الثانية في وسط المعمعة: طبقة تعيش حكمة محلّية يحفظها السوريون جيداً: (شوف مصيبة غيرك تهون عليك مصيبتك) فتحاول هذه الطبقة الحفاظ على ما وصلت إليه من مكتسبات، من خلال قبولها ممارسة دور وظيفي قائم على جلد طبقة الـ (ما دون جمهور) من جهة، وتمارس، من جهة أخرى، النفاق للطبقة التالية.
-التالية طبقة متحلّقة حول (طاقة الخبز)، حامية لعرين السيد الأول، تتولى مهمة الدفاع عنه مباشرة، والحفاظ على وحدانية مقامه الكريم، الذي لا يشبه مقامه أحد، تستظلُ بحكمته، وتستدلّ بنور وجهه، طبقة رضي عنها الله والأب القائد والمؤمنون بأهداف الثورة، الثورة التي أنجبت قائد الأمّة!
القائد التاريخي الملهم، الذي وصل إلى طاقة الخبز وحده، وحده لا شريك له، قائد الثورة الاشتراكيّة!
القائد المُنتظر، الذي تنبّأ الكتاب باسمه وكسمه ووجهه الكريم، القائد العظيم، واحد لا شريك له: قائد الثورة الاشتراكيّة!
القائد الواسع كمظلة تحنو على من دافش ليصل إلى تحت سقفها، تراعي مصلحة المجدين، وتحميهم، وحدهم، من حر الصيف ومن برد الشتاء..
القائد الذي يستسقى به الغمام، وفيه تكتبُ المعاني ذاتَها، ثم تجري على لسان شاعر صادق، والله صادق!
القائد الذي باسمه ترقص الموسيقا فيغنيها المغنّي!
القائد الذي به تحلم كل الإناث، والدجاج، ويهدل الحمام، والعصافير زرقاء، والسماء تُزقزق تزقزق!
به وحده تليق كل ألقاب البطولة: خالد ابن الوليد، نابليون، الكابتن ماجد.. لا فرق فجميعهم، في ذهن جمهور الرئيس، يمثلون، صورة القائد البطل الذي تمكّن من الوصول إلى (طاقة الخبز) وحده!
القائد الذي يمسّك بالحديد جيداً، ويجلد الجمهور جيداً بحكمة تقول:(ما أخذ بالقوّة لا يستردّ إلا بالقوة)..
إلى الأبد إلى الأبد.. يهتف الجمهور، يتوّجونه ملكاً اشتراكيّاً، ذلك الفحل القوي يمكنه وحده أن يتحكم في إمكانيّة: عدم وصول الخبز أو وصول بعضه إلى فئة دون فئة!
وربّما انفعلت لحية مثقفة جيدا، فهتفت: المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، والقائد قوي جدا جدا .. لا شكّ في إيمانه، فصفّق الجمهور جدّا جدّا!
في آخر الحشود، من بعيد، وبينما طبقة الـ (ما دون) تسمع الخطاب والهتاف والنباح، وتحلم برغيف الخبز.. حشرج، من بينها، صوت جائع ضعيف: الله، رب الجنود الأقوياء، لا يحبّني!
ومات جائعاً!
تعددت الأفران على السوريين، وتعددت دورات الدفش، الأفران التي تقتل مروءة الشهم، وحياء الكريم، وعفة الرجال والنساء.
لم تكن الثورة إلا حشرجات هؤلاء الناس السوريين البسطاء، طبقة (ما دون جمهور)، الأيتام سياسيّاً، المهملين في مخيمات اللجوء، أو في المنافي، أو في قرى الشمال السوري المنكوب، ذلك الشعب القادر وحده على كسر منظومة سياسيّة وثقافية أنتجها نظام الاستبداد لتكون مبرّرا لوجوده، ومظهره المتجدد في كل مناسبة.
ليس سرديّة إبداعيّة ما حملته هذه الكلمات، بل هي واقعيّة بعيون مواطن سوري بسيط، لا يحلم أن يصير قائدا، ولا يريد أن يستحوذ على خبز غيره، يريد أن يأكل خبزه بكرامة فقط، مثل كل السوريين، لأنه (إنسان ماني حيوان، وهالعالم كلها مثلي).