صفاء شاوي

أكاديمية سورية

الدول الطاردة للعقول والمفكرين…. والدول التي تستثمرها

الناظر والمتأمل في الحياة يجد أنها مراحل وأطوار ما إن ينتهي الإنسان من مرحلة حتى يدخل في مرحلة جديدة بدون فواصل أو شعور ويظل ينمو حتى يصل إلى مرحلة الكبر, كذلك الإنسان المتعلم و المفكر يظل يتطور ويتعلم من الحياة حتى يصل إلى مرحلة من النضج العقلي والفكري , فالمفكر يعتبر العقل النابض في الأمة بما يحمله من أفكار, ومن خلال البناء الصحيح له نستطيع أن نتغلب على كثير من الصعوبات نتيجة ما يقدمه من أطروحات وأبحاث ودراسات عميقة من خلال البحث الدؤوب والعمل المتواصل في دراسة هذه المشكلات ليجد حلاً لجذورها ومن خلاله تصل الأمة إلى تحقيق ما تصبو إليه, والمفكر مستعد دائماً لتعلم الأمور الجديدة ومشاركتها مع الآخرين فيعمل دائماً على تنمية ذاته باستمرار من خلال تغذية عقله بشكل مستمر بالمعارف والمعلومات المتجددة وتطوير مهاراته وقدراته العقلية فالعقل سلاحه العلم وعقل بلا معرفة كجندي أعزل في معركة , ويعتبر المفكر صمام أمان الأمة فإذا أحسن إعداده أمكننا التغلب على الكثير من المشاكل ونكون بذلك قد غرسنا أول لبنة في بناء الأمة , ونتيجة للظروف التي نمر بها والتي فرضت على مجتمعنا جعلت منا أفراداً متشابهين في التفكير والمنطق ومما زاد الأمر تعقيداً , وبالنظر للوضع الحالي نرى أن أغلبية الدول المتقدمة تهتم بالعقول الاستراتيجية بل وتعتبرها ثروة قومية لا تفرط فيها ولا تتركها نهباً لطرف آخر حيث يعتبرونها ثروة لا تقدر بثمن نتيجة ما يحمله أصحابها من عقول تستطيع أن تنقل الدولة من دولة متخلفة إلى دولة تعد في مصاف الدول المتقدمة , وقد اهتم أصحاب القرار في الدول المتقدمة باستثمار هذه العقول وسط مؤسسات قوية أو مراكز أبحاث حتى تتلاقى الأفكار ويتم تبادل الخبرات وتثمر إنتاجاً متميزاً , لقد عملت الدول المتقدمة على الاهتمام بهذه العقول بإتاحة تأسيس مراكز تفكير استراتيجية لها تهتم بدراسة العديد من الظواهر المؤثرة في السياسة وإدارة الدولة الحديثة وأصبحت مراكز التفكير لها دور واضح وفعال وملموس ليس فقط في تطور الحياة بل في تحقيق مستهدفات الدولة على الرغم من محاولة الكثير من الدول ومن ضمنها الدول العربية تأسيس بعض المراكز ولكن دورها أصبح مهمشاً وأبطلت فاعليتها نتيجة عدم الاستثمار فيها بشكل صحيح أو تكبيلها بسياسات تبطل مفعول منتجها , في بداية نشأة مراكز التفكير كان الهدف منها عمل دراسات عن أمن الدول وجيوشها والارتقاء بقدرات البلاد الحربية وبعد الحرب العالمية الأولى بدأ العمل على إنشاء مراكز التفكير السياسية والتكنولوجية ومع بداية الألفية الثالثة وبداية ثورة المعلومات والتكنولوجيا زادت أهمية وعدد مراكز التفكير في العالم التي أصبح لها دوراً كبيراً في توفير الجهد والوقت وتقديم المشورة لرجال الدولة لأن عملهم ينصب على الاهتمام بدراسة المشاكل والظواهر التي تواجه الدولة دراسة علمية عميقة ووضع توصيات لصانع القرار. إن الأزمة التي يمر بها السوريين أدت إلى تشرذم الواقع المجتمعي السوري وتعمقت جراح السوريون وزادت يوماً بعد يوم من معاناتهم أمنياً واجتماعياً واقتصادياً ليصبحوا أمام الواقع المزري نازحين أو لاجئين يعانون الفقر والتشرد , ومع استمرار الأزمة تبددت الموارد الاقتصادية والبشرية للبلاد وخسرت معها ثروتها الأساسية المتمثلة بالشباب الذين يمتلكون المؤهلات والقدرات الكبيرة وهجرة العقول والكفاءات بحثاً عن بيئة آمنة لها ولمستقبل أبنائها , هذا الوضع أدى إلى فقدان أعمدة بنيان المجتمع الأساسية لاسيما الكفاءات والعقول العلمية المتميزة والقادرة على المساهمة الفعالة في إعادة إعمار البلاد ووضعها على طريق البناء الصحيح للإنسان والمجتمع معاً وتطويره بما يناسب الواقع العلمي والحضاري في العالم .

في فترة ما قبل الحرب كان أبناء سوريا يهاجرون بسبب البطالة وانخفاض الدخل وكان ما يدفعهم للهجرة إلى الخارج البحث عن فرصة عمل تؤمن لهم ولأولادهم الدخل المناسب والاستقرار , وهذا ما كانوا يفتقدونه في سورية نتيجة انعدام فرص العمل المناسبة لمؤهلاتهم وإمكانيتهم العلمية وإن وجدت تكون بدخل منخفض جداً لا تكفيهم قوتهم فضلاً عن التعيينات في الوظائف أو المناصب التي تعتمد على المحسوبيات والولاءات الحزبية , هذا الأمر كان يؤدي إلى استبعاد العقول النيرة والعلمية من مراكز تشكيل القرار السياسي والاقتصادي والإداري وغياب الحريات السياسية وحرية الفكر والتعبير كانت أيضاً أحد أسباب الهجرة , وتعتبر سورية بيئة طاردة للكفاءات والمؤهلات العلمية العالية وأكثر القطاعات تضرراً كان القطاع الصحي والتعليمي مما أدى إلى تدني مستوى التعليم وأدواته وأثّر على الخدمات الصحية , ومع بداية الأزمة شكل هروب الأطباء والأكاديميين والمهندسين وأصحاب المهن ظاهرة واضحة بحثاً عن أماكن أكثر أماناً واستقراراً لهم ولعوائلهم فهاجروا إلى الدول الأوربية طمعاً في الحصول على مستقبل أفضل فمنحتهم تلك الدول الإقامة والحماية لتمكنهم أن يكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع بهذا يكون الوطن قد خسر القسم الأكبر من شبابه أصحاب المؤهلات العلمية والخبرات والكفاءات لتزيد النزيف في جراح البلد الذي أُنهك اقتصادياً وعسكرياً نتيجة الحرب المستمرة على أراضيه , وهذا كله بسبب تردي الوضع الأمني وانسداد كل الطرق لأي حل للأزمة السورية في المستقبل القريب وتدهور الوضع الاقتصادي , لذلك يجب البحث بكل الوسائل لإيجاد حل سياسي سريع للأزمة السورية على أساس إعادة الأمن والاستقرار للبلاد مما سيوفر مناخاً ملائماً لإعادة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المناسبة ومشاركة العقول والكفاءات العلمية في صنع القرارات الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية والأخذ بآرائهم حول مختلف الأزمات التي تلم بالبلاد , وتعديل القوانين المتعلقة بالتوظيف وخصوصاَ المناصب العليا وإعادة النظر في الرواتب والأجور بما يضمن حصول أصحاب المؤهلات العلمية العالية والكفاءات المتميزة على الدعم المادي والمعنوي والتي تؤمن لهم حياة تناسب قدراتهم وخبراتهم وتخصصاتهم العلمية والحيلولة دون مغادرتهم البلاد فهذه الفئة من الشعب سيكون لها الدور الأهم في إعادة إعمار سورية بعد انتهاء الأزمة . إن بناء الدولة يكون ببناء العقل  والإنسان المؤمن بالرأي الآخر وحق الاختلاف مع الآخر وبحرية التعبير, ويحتكم للديمقراطية والانتخابات الحرة وقرار الشعب في أي خلاف داخل الدولة وليس إلى السلاح ويرفض الاستبداد بالسلطة ويؤمن بالتداول عليها وبأن المواطن في وطنه له نفس الحقوق ومن حقه أن يكون أيضاً في هذا المنصب أو ذاك , ولا يتم إنكار ذلك عليه وحصر المناصب في شريحة محددة متقاطعة المكاسب والمصالح .

عندها نبني الدولة ببناء هكذا إنسان حضاري متنور , فحينما يحمل هذا الإنسان  هذه القيم والمفاهيم الحضارية نتقدم ونقضي على التخلف , ولابد أن نعرف أن العقلية العربية إجمالاً هي عقلية توكلية ليست مبتكرة ولا تعمل بشكل صحيح, وأكبر مشاكل العرب هو عدم القراءة وعدم تطبيق ما يتعلموه في الجامعات  وعدم الإبداع في أي مجال وذلك لعدم اهتمام الحكام بالعلم والعلماء , فكل البشر يمتلكون نفس القدرة لتغيير أنفسهم نحو الأفضل ولكن الفرق فيما بينهم هو الرغبة في التغيير فالازدهار ينهض على صراع الأفكار وليس على الاحتكار , إنه يقوم على مبدأ الإقناع وليس على الإخضاع ومتى فُقد هذا الشرط فإنه ينقلب من فكر إلى إيديولوجيات قامعة تطفئ الفكر وتجمد العقل وتشل الثقافة وتدفعها إلى التحجر.

 

%d مدونون معجبون بهذه: