
النقيب المهندس محمود الشيخ علي

قراءة في الاستراتيجية العسكرية
المقدمة:
من المعلوم أنه لم يظهر مفهوم الاستراتيجية العسكرية الحديثة كعلم بين ليلة وضحاها؛ إنما هي عملية تراكمية لجميع الظواهر المتعلقة بهذا المفهوم (الملاحظة -الدراسة النظرية – التجربة – نظريات التطوير) منذ بداية الحرب التقليدية وحتى فترة ليست ببعيدة.
وقد حظي هذا المفهوم باهتمام الكثير من المفكرين والباحثين العسكريين ووضعت نظريات عدة بهذا الخصوص ومازالت مراكز الأبحاث مستمرة في تطوير الاستراتيجية بما يتناسب مع التقدم العلمي المتسارع في العصر الحديث، وهنا يجب التفريق بين الاستراتيجية التي سنتحدث عنها في بحثنا هذا وبين التكتيك الذي يعني التطبيق العملي للاستراتيجية على المستوى الأقل
- مفهوم الاستراتيجية العسكرية:
هي فن استخدام العمليات بطريقة تقنية مهنية منظمة واجراء ملائمة في توزيع مختلف الوسائط والإمكانات العسكرية وتعبئة وحشد الطاقات والموارد المختلفة وتوجيهها بالشكل الأنسب للوصول إلى الهدف المطلوب.
وقد تكون الاستراتيجية (عُليا) وهي من أولويات مهام القيادة السياسية في الدولة والتي تنظم وتخطط وتقدر وتحشد كافة الإمكانات المادية بأنواعها والمعنوية وسواها من قوى الضغط للتأثير على الطرف الخصم لإجباره على الخضوع وبالتالي تحقيق هدف السياسة، كما تحدد كافة المهام والأدوار لمختلف الاستراتيجيات العامة.
وقد تكون الاستراتيجية (عسكرية بحتة) وهي تختص بمرحلة الصراع المسلح والإمكانات العسكرية لتحقيق هدف الاستراتيجية العليا وذلك اعتمادا على تقدير الموقف بشكل مدروس ومنظم وفق منهج الاستراتيجية العليا.
الغاية من الاستراتيجية العسكرية:
تهدف الاستراتيجية إلى تحقيق أهدف السياسة المختلفة (سياسيا- اقتصاديا – عسكريا- معنويا) عن طريق الاستخدام الأمثل لكافة الإمكانات والوسائل المتوفرة، فقد لا يتحقق الهدف إلا باتباع أسلوب هجومي لاحتلال أراضي الغير، أو باتباع أسلوب دفاعي لحماية أرض الوطن ومصالح وقيم الأمة. للوصول إلى الهدف النهائي للسياسة وتحقيق عدد من الأهداف المرحلية التي يؤدي تحقيقها إلى إحداث تغييرات حادة وهامة في الموقف الاستراتيجي أو إلى توجيه الوضع الاستراتيجي باتجاه يؤدي حتماً إلى الهدف النهائي.
وهنا يجدر القول إن الاستراتيجية تتغير بالتوازي مع مصالح الدولة وتتأثر بعوامل الزمان والمكان وعقلية المخططين وظروف العصر وتتأثر بالعوامل السياسية والاقتصادية والعسكرية وبما أن هذه العوامل ليست ثابتة فإن قواعد الاستراتيجية العسكرية قد تتغير هي الأخرى؛ لذلك فإن الاستراتيجية الحديثة تتطور جنباً إلى جنب مع تطور الاقتصاد والسياسة وكذلك فإن تطورات العلم والتكنولوجيا تؤثر تأثيراً مباشراً في الاستراتيجية فهي تعتمد على أحدث الإنجازات.
- نظريات في الاستراتيجية العسكرية:
- استراتيجية القوة البحرية العسكرية:
والتي جاء بها الفرد ماهان Alfred T. Mohan والذي يعتبر من أوائل الجيوبوليتيكيين المتخصصين بالقوة البحرية واستراتيجيتها. كان ماهان ادميرالاً أمريكياً ومفكراً جيوبوليتيكياً، ألف كتابه المشهور (أثر القوة البحرية على التاريخ) عام 1890م ذكر فيه معتقداً أن الدول يجب أن تتقوقع أو تضمحل، وأن ليس هناك دولة تستطيع أن تحفظ برقعتها إذا بقيت ساكنة دون حراك وأراد بآرائه هذه خدمة الولايات المتحدة الأمريكية لأنه اعتقد أنها ستصبح قوة عالمية في المستقبل ولذا كان داعياً ومتحمساً لزيادة قوتها البحرية بشكل تتماشى به مع مصيرها التوسعي كقوة عملاقة والف كتاباً أخر عنوانه تأثير القوة البحرية على الثورة الإمبراطورية الفرنسية بين سنة 1660-1793م. وذكر ” بأن وجود أسطول حربي قوي يستطيع القيام بمهام الهجوم سيضمن للولايات المتحدة سيادتها المطلقة في البحر الكاريبي والمحيط الهادي ويتيح لها نشر رسالتها الثقافية في الشرق الأقصى ” وقد فتحت أراء ماهان هذه افاقاً جديدة في نظر الذين يدعون الى مبدأ ” المصير الواضح Manifest Destiny ” الذي يرمي إلى توسع الولايات المتحدة في قارة أمريكا الشمالية.
لذا فإن آراء ماهان تأخذ فكرة التوسع الإقليمي للولايات المتحدة الأمريكية إلى الغرب والشمال والجنوب وأصبحت تناسب المبدأ الأمريكي الذي يحاول إيجاد تبرير نظرية لأسس الوحدة الجغرافية لقارة أمريكا الشمالية. وأن نظرية ماهان لم تقتصر على القارة وحدها بل أضافت إلى مبدأ المصير الواضح روحاً للتوسع فيما وراء البحار وقادت الولايات المتحدة إلى الظهور على المسرح الدولي قوة عالمية عن طريق القوة البحرية.
وطبيعي أن نقول إن الغاية الأساسية لهذه الإستراتيجية هو ربح معركة التسلط على البحار عن طريق ضرب أسطول العدو الضربة القاضية. وقد لاقى هذا المبدأ قبولا في كثير من دول العالم ذات المطامع والتطلعات التوسعية، فقامت ببناء أساطيل قوية مما أعطى إشارات الإنذار إلى بريطانيا بوجود الأخطار وتهدد مصالحها وممتلكاتها المنتشرة في أرجاء المعمورة آنذاك أي أن البحر أصبح مصدراً للعظمة ووسيلة للتوسع.
- النظرية البرية (قلب الأرض) ماكيندر ١٩٠٤م:
لاحظ العالم البريطاني ماكيندر أن ثلثي اليابسة تشغلها قارات أوروبا واسيا وافريقيا (العالم القديم) فأطلق عليه الجزيرة العالمية والتي تحيطها البحار والمحيطات متصلة ببعضها البعض. وقد ركزت هذه النظرية على أهمية القوات البرية في حسم المعارك والسيطرة على العالم، ومكونات النظرية هي:
1-قلب الأرض: المنطقة الوسطى أطلق عليها منطقة الارتكاز ثم عدل الى قلب الأرض، وتمتد من حوض الفولجا غربا الى سيبيريا شرقا ومن المحيط المتجمد الشمالي شمالاً الى إيران وأفغانستان جنوباً، وتتميز هذه المنطقة بترامي مساحتها وبعدها عن البحار والسواحل وبالتالي تمتاز بحصانة طبيعية تامة ضد الغزو البحري وبذلك تعد أعظم قلعة دفاعية على الأرض.
٢- الهلال الداخلي: وهو نطاق بري وجزء منه بحري، وتشمل المناطق الساحلية الأوروبية التي تقع غرب جبال الأورال، والأراضي العربية الصحراوية في الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا والمناطق الموسمية في آسيا مثل الهند ومعظم الصين.
3- الهلال الخارجي: نطاق ساحلي محيطي ضخم يغلف الجزيرة العالمية على شكل هلال متصل، ينظم بريطانيا وكندا وامريكا وجنوب افريقيا وأستراليا واليابان، ويمتلك هذا القطاع قوة بحرية عظيمة.
- نظرية سبيكمان والنطاق الهامشي:
ظهرت نظرية سبيكمان (۱۸۹۳ – ١٩٤٣ م) بعد ظهور نظرية ما كندر بأربعة عقود، وقد تضمن كتابه ” جغرافية السلام ” The Geography Of Peace الذي نشر عام 1944م، خطوطاً عريضة من الناحية الاستراتيجية منها: أن الطريقة الوحيدة لاستمرار السلام تأتي عن طريق نظام أمن جماعي: كأمم متحدة مسلحة، أو بحفظ توازن دولي، وتتعلق فكرته الثانية بنظرية ما كندر، وهي ونظرية « ما كندر والهارتلاند » أي قلب العالم والتي تتلخص : – من يحكم شرق أوربة يسيطر على قلب العالم ، ومن يحكم قلب العالم يسيطر على جزيرة العالم ، ومن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم.
فالعالم الغربي يحيط به العالم الشرقي بما فيه كتلة أوراسيا وإفريقية وأستراليا، وتبلغ مساحة يابس نصف الكرة الشرقي نحو (٢,٥) مرة من يابس النصف الغربي، كما يبلغ سكان القسم الشرقي نحو (10) أمثال سكان قسمه الغربي، وبتقديرات عام 1937م كان نصف الكرة الشرقي ينتج ثلثي فحم العالم وحديده، من ثم ينتهي سبيكمان إلى أن العالم الجديد لا يمكن أن يقف أمام العالم القديم في نضال طويل، ولابد للسياسة الغربية أن تمنع وحدة أوراسيا تحت قوة واحدة. وأخذ سبيكمان على ماكندر تقديره الزائد لإمكانات الهارتلاند (قلب العالم)، فهناك مساحات كبيرة من الأراضي الواقعة بين (بولندا ونهر ينسي) قاحلة، وأن القوة الحقيقية تكمن في ذلك النطاق من الدول الذي يحيط بالهارتلاند وهذا النطاق أطلق عليه سبيكمان النطاق الهامشي، الذي يعيش فيه معظم سكان العالم وتوجد فيه معظم موارده. ولم يكن التاريخ السياسي بطوله عبارة عن نضال بين القوى البحرية والقوى البرية بهذه البساطة، وإنما هو «نضال بين بريطانية وقوة هامشية من ناحية، ضد قوة من النطاق الهامشي وروسية من ناحية أخرى، أو بين بريطانية وروسية من ناحية، ضد قوة من النطاق الهامشي من ناحية أخرى». وقد يقصد سبيكمان بهذا:
- فرنسا وبريطانيا ضد تركيا.
- نجدة فرنسا وبريطانيا لتركيا ضد روسية في حرب القرم.
- بريطانيا ضد فرنسا
- بريطانيا وفرنسا وروسيا ضد ألمانيا.
فالنطاق الهامشي يمتد كمنطقة حاجزة غنية بالموارد والسكان حول الهارتلاند (قلب العالم)، من ثم يجب أن تتغير في نظره نبوءة ما كندر إلى: «من يسيطر على الأراضي الهامشية يحكم أوراسيا». «ومن يحكم أوراسيا يتحكم في مصير العالم”. وإذا عدنا إلى الحرب العالمية الثانية لوجدنا أن بريطانيا كانت تعتمد على السلاحين الجوي والبحري كسلاحين أساسيين في استراتيجيتها، فكانت توجه معظم نشاطها نحو القارات الاستراتيجية التي ترمي إلى تدمير مدن العدو ومصانعه وطرق مواصلاته وشل حيويته أكثر مما تعتمد عليه في مساعدة الجيش على الهجوم أو على صد الهجوم، وظل هذا السلاح الجوي ثانوياً أو تابعاً بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية حتى (١٩٤٥ م) حينما أسقطت قنبلة هيروشيما الذرية وكسبت الحرب حينئذ. وقد استمرت في الاعتماد على القوة الجوية أساساً لاستراتيجيتها حتى يومنا هذا. وكانت الاستراتيجية السوفييتية والألمانية تعتمدان بدورهما على الغزو البري، وأن السلاحين الجوي والبحري ما هما إلا عاملين مساعدين للقوات البرية، التي لا يتم الانتصار وحسم المعركة إلا بها. وهذا يقود إلى القول: إن الاختلاف في الاستراتيجية يرجع إلى الظروف الجغرافية لكل دولة، فالاتحاد السوفييتي وألمانيا هي دول برية بامتياز، بينما بريطانيا فهي دولة بحرية، والولايات المتحدة هي دولة برية وبحرية.
- الاستراتيجية النووية:
كان لظهور القوة النووية في نهاية الحرب العالمية الثانية أثره في قلب الخطط الاستراتيجية مرة أخرى، وبدأ البحث في الاستراتيجية النووية التي تختلف عن الاستراتيجية التقليدية، ويرجع هذا إلى أكثر من عامل منها:
1- أن قنبلة ذرية متوسطة الحجم تعادل في قوتها الانفجارية قوة أربعة ملايين قنبلة من قنابل المدافع المعروفة بعيار 77 مم، بينما قنبلة هيدروجينية تعادل في قوتها الانفجارية مئتي مليون قذيفة مدفع.
2- تحصر الأسلحة التقليدية المعركة في ميدان معين، في حين أن السلاح النووي يجعل ميدان المعركة غير محدود، فالصواريخ عابرة القارات تستطيع أن تصيب من الأهداف ما شاءت، ويتلاشى في هذه الأحوال عنصر الوقت، لأنه بالدقائق بدلاً من أن كان يحسب بالساعات. وتتدخل العوامل الجغرافية مرة أخرى في الاستراتيجية النووية، فهل يتجه التدمير نحو قوى العدو النووية فقط أم ضد مدن العدو؟ فإذا كانت دولة العدو صغيرة المساحة كبريطانيا أو فرنسا، فلا فرق بين تدمير قوى العدو النووية ومدنه، لأن تدمير القوى النووية الموزعة في مساحة صغيرة سيلازمه بطبيعة الحال تدمير المدن والعكس صحيح. وقد يرجع هذا أيضاً إلى عامل كثافة السكان فضلا عن المساحة.
فمن الطبيعي أن يختار الاتـحـاد السـوفـيـيـتـي مـدن الولايات المتحدة الأمريكية هدفاً ، ذلك أن أكثر من ثلثي سـكـان الـولايات المتحدة مدنيين ، وتتركز مدنها الـكـبـيـرة عـلـى السـاحـل الشـرقـي وفـي إقـلـيـم البحيرات ، ومعظمها مراكز صناعية وموانئ ، وفي الوقت نفسه فيها عشر مدن يتراوح سـكـانـهـا بـيـن ( ٨٠٠ ) ألف نسمة و ( 8 ) مليون نسمة ، من بوسطن التي تقترب من الـرقـم الأول إلى نـيـويـورك التي تزيد على الرقم الثاني، من ثم يكون ضرب الاتحاد السوفييتي للمدن الأمريكية سهل ومركز للغاية ، ويؤدي هـذا الضـرب إلـى إحـداث شلل للحياة الأمريكية . ومن الطبيعي أن تختار الولايات المتحدة الأمريكية المراكز النووية للاتحاد السوفييتي هدفاً، فسكان المدن هم نحو نصف السكان فقط، كما أن موسكو ولينينغراد معاً تعادلان سكانيا نيويورك وحدها، يضاف إلى هذا تباعد مدن الاتحاد السوفييتي وتشتتها، وعدم تركيز مناطقه الصناعية التي زحفت إلى ما وراء الأورال، كل هذا مما يجعل تدمير القوة النووية السوفييتية أسهل، وفي نفس الوقت يكفل لها عجز الاتحاد السوفييتي عن تدمير مدنها.
- الاستراتيجية الكوكبية بعد التوازن النووي:
في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن العشرين، عندما كان السلاح النووي حكرا على الولايات المتحدة الأمريكية، تبنت القيادة الاستراتيجية الأمريكية اسـتـراتـيـجـيـة (الإبـادة الشـامـلـة أو الانـتـقـام الـمكثف)، واتضح ذلك فـي قـول ” فوستر دالاس ” وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية أنداك: «إن المعتدي العنيد يجب أن يعرف أن أعماله ستجلب عليه انتقاماً مروعاً يجعله يخسر أكثر مما يكسب، وأساس استراتيجية (الإبادة الشاملة أو الانتقام المكثف)، خوض حرب نووية وصاروخية شاملة تستخدم فيها جميع أنواع الأسلحة المتوافرة، وعلى جميع الأهداف المعادية، عند أول بادرة عداء تبدر من الطرف الثاني. وبديهي أن هذه الاستراتيجية لم تكن قابلة للنجاح، إلا إذا كان الخصم لا يملك أسلحة مماثلة، من حيث قوة تدميرها وتأثيرها ومداها وإلا أصبحت انتحاراً متبادلاً بين الطرفين. وفي ستينات القرن نفسه، تبدل تناسب القوى والموقف السياسي بين الدولتين لتزايد القوة النووية السوفييتية التي أصبحت قوة رادعة، فظهرت إلى الوجود نظرية تبنتها القيادة الاستراتيجية الأمريكية وقيادة حلف الأطلسي تحت اسم ” الرد المرن ” أو ” التجاوب المرن ” وهذه النظرية مبنية على أساس الإعداد للرد على كل عمل معاد بعمل يناسبه واستخدام القوات الكافية لإحباطه ولو أدى ذلك إلى استخدام الأسلحة النووية التكتيكية في معارك محلية أو في مستوى استراتيجي محدود، ولا يكون الرد شاملا إلا في نهاية المطاف. الغاية من ذلك المواءمة بين الحرب المحدودة والمعارك المحلية وبين الردع الشامل من أجل إبقاء النزاع المسلح محصورا في حدود معينة مع التهديد بالرد الشامل حلا استراتيجيا احتياطياً وبطبيعة الحال فإن قيادة مثل هذه العمليات الاستراتيجية تتطلب دقة بالغة في تحليل المعطيات والاستنتاج والقرار، وحزماً في التنفيذ وضبط الأمور، خشية التصعيد وبلوغ حد في النزاع لا يمكن حله إلا بالرد الشامل. وقد تفرع عن هذه الاستراتيجية مذهب آخر ينادي بـ ” الرد المتدرج “، أي تصعيد الأعمال الحربية درجة درجة ابتداء من الأسلحة التقليدية وانتهاء بالأسلحة النووية التكتيكية فالاستراتيجية، مع عدم استبعاد إمكان الرد الشامل بحسب ما تقضيه الأحوال والعوامل المستجدة. ويرى أصحاب هذا المذهب أن الاستراتيجية من هذا النوع يتيح فرص الدفاع باستخدام الأسلحة التقليدية والأسلحة النووية الصغيرة، من دون أن تؤدي إلى حرب شاملة.
- سباق التسلح واستراتيجية الردع:
أدى تطور المفاهيم الاستراتيجية في الستينات من القرن العشرين وظهور بعض المذاهب الاستراتيجية إلى تبدل عام في مفهوم النصر عما كانت عليه قبل العصر النووي. ففي الحرب النووية سيلحق الدمار بالمنتصر والمهزوم وسوف تكون الحرب انتحاراً متبادلا يصيب جميع الأطراف المشتركة بالحرب وغير المشتركة أيضاً. والطرائق التي سوف تستخدم فيها الأسلحة النووية سواء في الهجوم أو الدفاع هي نفسها التي يتبناها الطرفان المتحاربان (التدمير الوقائي لأسلحة الخصم أو الهجوم المباشر- اعتراض وسائل الهجوم المعادية أو الدفاع المباشر- الوقاية من تأثير أسلحة التدمير الشامل المعادية والتهديد بالانتقام أو الهجوم غير المباشر، وغير ذلك). وكل هذه الطرائق وغيرها تتطلب تفوق أحد الطرفين على الآخر في تقنيات الاعتراض والهجوم حتى يستطيع تدمير وسائل الهجوم النووي المعادية وإيصال وسائله إلى أرض الخصم ، وهذا السعي إلى تحقيق التفوق من قبل الطرفين أدى إلى ظهور ما يعرف بـ ” سباق التسلح ” الذي استندت إليه ” الحرب الباردة ” بين الدولتين العظميين ، وهدفها الإفادة من العلم والتقنية والصناعة والاقتصاد لإنهاك الخصم إنهاكاً غير مباشر وإبطال مفعول أسلحته بإيجاد أسلحة متفوقة عليها ، وتكليفه نفقات وجهوداً علمية وتقنية واقتصادية كبيرة لتحقيق التوازن الاستراتيجي مع الخصم أو التفوق عليه ، وإبقائه دائماً تحت خط ” التهديد بالانتقام ” الأمر الذي يضطره إلى الاحتفاظ بقوة ضاربة كبيرة تكفي لإرهاب الطرف الآخر وردعه عن استعمال القوة المسلحة . وتفرعت عن سباق التسلح استراتيجية ” الردع “، والردع في ذاته ظاهرة قديمة تقوم أساساً على تهديد الخصم باستعمال القوة لمنعه من الإقدام على تنفيذ ما يهدف إليه، وهو أسلوب دفاعي كان وما يزال أحد أسس النظريات العسكرية، إلا أنه اكتسب في العصر النووي أبعادا جديدة. إن تطبيق استراتيجية الردع لا يتوقف على حجم الوسائل المخصصة لها فحسب، بل يتعداها إلى البنية الفكرية والمذهبية والتاريخية والنفسية للشعب وكيانه ومحصلة هذه العوامل مجتمعة هي التي تحدد نجاح استراتيجية الردع أو إخفاقها وهي تعتمد بالدرجة الأولى على العاملين المادي والتقني وعلى العامل النفسي للخصم، والعاملان الأولان قابلان للحساب ويوفران الطاقة التدميرية والوسائل الكفيلة بإيصالها إلى أراضي الخصم والقدرة على تحدد اختراق دفاعاته وإصابة الأهداف بدقة عالية. أما العامل النفسي فيبقى على أهميته خارج إطار الحساب لارتباطه بإرادة الإنسان وتصميمه وإيمانه بقضيته. وتسعى استراتيجية الردع إلى زرع الثقة لدى أبناء الوطن، وزرع الشك عند الخصم، وإخضاعه لنوع من الصراع النفسي يدفعه في نهاية المطاف إلى الإحجام عن المخاطرة باللجوء إلى الصراع المسلح.
ولكي يكون لاستراتيجية الردع نصيبها من النجاح لابد من أن تتوافر لها الأسباب الكافية لإرغام الخصم على التراجع عن نواياه تحت التهديد بخسائر تفوق ما يمكن أن يجنيه من مكاسب ومزايا فيما لو مضى في تنفيذ ما عزم عليه. وتتميز استراتيجية الردع النووي عن غيرها بأنها فورية وشاملة يمكن أن يبلغ أذاها أقصى نقاط المعمورة، وهي هجومية ودفاعية وفي آن واحد. ويدخل في نطاقها أيضاً استراتيجية ” حرب النجوم ” التي بدأت سراً منذ العقد السابع وتم تبنيها علناً مع بداية الثمانينات من القرن العشرين. إن تبني استراتيجية الردع لا يعني التخلي تماماً عن أنواع الاستراتيجية الأخرى (الرد المرن- التصعيد التدريجي)، لأن نجاح الردع في منع الحرب أو تأخير نشوبها لا يمنع حدوث الأزمات أو المشكلات الدولية المحدودة التي قد يتطلب حلها إلى الصراع المسلح محلياً واستخدام عدد محدود من القوات المسلحة الضرورية لإنهاء الأزمة.
- مفهوم الضربة الوقائية (الحرب الاستباقية):
تضمنت وثيقة ” استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية ” والتي قدمها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إلى الكونغرس بتاريخ 20/9/2002 م مبدأ استراتيجي جديد هو
” الحرب الاستباقية ” وجوهر هذا المبدأ هو التحرك الوقائي الذي يمكن أن يأخذ أشكالاً عدة تصل في ذروتها إلى شكل الخيار العسكري المنفرد، ولو تناقض ذلك مع الإرادة الدولية. هذه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة ” الحرب الاستباقية ” التي تسمح للولايات المتحدة بالتدخل العسكري في أي مكان يمكن أن يشكل حسب تصورها تهديدا لها ، أي خطراً محتملاً وليس خطراً أكيداً ، تأتي استجابة لحاجاتها الجيو-استراتيجية الأساسية ، وملبية لتأسيس نظام إمبراطوري ينصب الولايات المتحدة الأمريكية حاكماً مطلقاً للعالم ، وكذلك لاستبدال الصيغ الاستراتيجية السابقة إبان الحرب الباردة ، والمتمثلة في الردع والاحتواء ” التي لم تعد فاعلة في مواجهة الأخطار الإرهابية القادمة من الأنظمة ” المارقة ” كما وصفتها ، والساعية إلى امتلاك أسلحة التدمير الشامل على حد زعمها . وقد جاء على لسان بعض المسؤولين الأمريكيين يصفون القرن الحادي والعشرين بالقرن الأمريكي ” أمركة العالم ” بما تملكه من قوة عسكرية توليها الولايات المتحدة كل اهتمام ورعاية، وتخصص لها الميزانيات الـعـالـيـة، وتـدعـمـهـا بـالـتـكـنـولـوجـيـا المتقدمة، التي تسمح لها بالانتشار والمراقبة والتدخل في أي مكان من العالم وفي أي وقت تريد.
فإحدى المدارس الأساسية في عملية صنع القرار الأمريكي ” المدرسة الجيو استراتيجية ” تقول في نظريتها: ” يجب أن ترتكز السياسة الخارجية الأمريكية في أي وقت من الأوقات، وفي أي مكان في العالم إلى متطلبات وشروط الأمن القومي الأمريكي “. هذه النظرية التي اشتقت منها جملة من المفاهيم مثل حدود الأمن والتي تتجاوز الحدود السياسية ، ومفهوم الضربة الوقائية التي تشير إلى التنبؤ المسبق بالتهديد على الأمن القومي وضرب هذا التهديد وهو في الحالة الجنينية, ولا ترى في تحقيق السلم العالمي تحقيقاً للأمن الأمريكي بل على العكس ، أن أمنها يقوم على مظاهر التوتر في بقاع أخرى من العالم ، كما يعتقد أصحاب هذه النظرية أن العالم بأكمله يشكل خطراً على أمريكا ومن هو اليوم صديق ، غداً قد لا يكون كذلك ، لذلك يجب أن تملك الولايات المتحدة القوة العسكرية الكافية لردع العالم . لذلك فإن مشروع الدرع الصاروخي الأخير الذي استند بشكل أساسي لهذه النظرية، سوف تعمل الولايات المتحدة على استكماله للسيطرة على الفضاء ودعم سيطرتها وتفوقها على العالم.
إن ما آلت إليه الأوضاع الدولية بعد تداعي سياسة التطبيق وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية بالقوة العسكرية والاقتصادية علي العالم وعلى مؤسساته الدولية الشرعية ، والذي تمثل بلعب الولايات المتحدة دورا بارزا في إيقاظ وتغذية بؤر التوتر الخامدة في إفريقية وشرق آسية ووسط أوربة والحملة على العراق كل ذلك يأتي ضمن نهج الاسـتـراتـيـجـيـة الأمـريـكيـة الـتـي حـذفت مـن مـكـونـاتها خصائص الشعوب وقيمهم وتكوينهم التاريخي واكسبت المشروع الأمريكي الراهن معايير ذاتية، وكأنما العالم لا يعدو كونه أسواقا ونفطا واستهلاكا وأرقاما بشرية . إن مبدأ ” ترومان ” الخاص بالردع والاحتواء الذي أعلن الحرب الباردة على عدو واضح المعالم ، محدد القسمات ، حظي بموافقة الأمريكيين وحلفائهم الأوروبيين ، وسيطر على السياسة الخارجية الأمريكية طوال العقود الخمسة التي تلت إعلانه في العام 1947 ، فهل ، مبدأ بوش الابن الخاص بالحرب الاستباقية ” ، يحظى بالموافقة نفسها بشأن العدو المتمثل في ” محور الشر ” والجماعات الإرهابية والدول المارقة على حد زعم الولايات المتحدة ، بالرغم من بعض الصعوبات التي تواجه تنفيذ هذه الاستراتيجية ، وخاصة ما يتعلق منها بالتكلفة الباهظة داخلياً وخارجياً ، وحجم هذه التكلفة الذي يرتبط بطبيعة التهديد وحجم ونجاح العمليات العسكرية !؟.
- الاستراتيجية المعاصرة:
تنحو الاستراتيجية في الوقت الحاضر إلى أن تكون أسلوب تفكير يصنف الحوادث بحسب أهميتها ويحلل أسبابها، ويختار أكثر الوسائل ملائمة لمعالجتها. فلكل موقف استراتيجية معينة، وقد يكون اختيارها صائبا أو مخطئاً بحسب الحال.
وإن هذا الاختيار من أهم أسس الاستراتيجية المعاصرة بسبب تعدد الخيارات المحتملة في الوقت الحاضر، إذ يمكن إلى جانب اللجوء إلى القوات العسكرية والتهديد بها، الاستفادة من القدرات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والثقافية والمعنوية التي قد تحقق الغرض المطلوب منفردة أو مجتمعة، وعلى هذا يكون جوهر الاستراتيجية المعاصرة: فن اختيار المنهج والأسلوب من بين الفرص المتاحة لما يناسب الحالة التي تواجه القيادة المسؤولة من أجل تحقيق أغراضها. والاستراتيجية المعاصرة تخضع للسياسة حكماً وترتبط بأغراضها، وذلك أن العلاقات الدولية ومصالح الدول متشابكة ومتداخلة بحيث يخشى معها من تصعيد الأزمات والمشكلات والصراعات المسلحة الـمـحـلـيـة وتـحـولـهـا إلـى صـراع دولـي تسـتـخـدم فـيـه الأسـلـحـة الـنـووية والصاروخية. والاستراتيجية المعاصرة تتبع المذهب العسكري الذي يحدد لها الأوضاع العامة والأساسية التي تستنبط منها طبيعة الحرب المقبلة ووسائل إعداد الدولة للحرب وتنظيم القوات المسلحة وطرائق إدارة الحرب في العصر النووي. والاستراتيجية المعاصرة شاملة، لأن الحرب النووية الحديثة تشمل جميع مظاهر الحياة البشرية، وتحيط بجميع جوانب النشاط الإنساني، وهي حرب مدمرة عنيفة لا حدود لأذاها. ويمكن تحديد مفهوم الاستراتيجية المعاصرة في أربعة مبادئ هي:
1- ارتباطها بأمن الدولة والمجتمع.
2- اهتمامها بتعبئة الطاقات الكامنة للمجتمع وتنظيمها وتوجيهها.
3- قابليتها للتعديل والتطوير بتبدل الأحوال والإمكانات والخيارات المتاحة.
4- تضمنها جملة من الاستراتيجيات المتخصصة التي تترابط وتتكامل فيما بينها لتحقيق أغراض الاستراتيجية الشاملة وصولاً إلى أغراض السياسة.
ولعل أهم ميزات الاستراتيجية المعاصرة تلاؤمها مع التبدلات التي تطرأ على طبيعة الحرب ووسائلها وطرائق إدارتها كلما تبدلت الإمكانات المادية والتقنية في الدولة. ويرى المنظرون الاستراتيجيون أن تدمير القوات المسلحة المعادية لم يعد الهدف الرئيسي الذي تسعى إليه الاستراتيجية إذ يمكن تحقيق التفوق الاستراتيجي والوصول إلى نتائج حاسمة من دون خوض معارك ضارية كبيرة، كما يمكن إجبار العدو على الاستسلام وتجريد قواته من سلاحها، والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ القديم والحديث المعاصر، وهي كلها تلقي ضوءاً على أهمية الكمون العسكري والاستراتيجية العليا والروح المعنوية للأطراف المتنازعة.
وإن نجاح الاستراتيجية في بلوغ أهدافها مرهون بالتقدير السليم للإمكانات المتاحة المتوفرة -البشرية والمادية والمعنوية- واستخدامها بالشكل الصحيح لبلوغ الأغراض المرسومة. والعلاقة بين الوسيلة والفرض علاقة جدلية متطورة تقابلها العلاقة بين الحاضر والمستقبل، لأن الاستراتيجية تحدد المنهج والوسائل الممكنة لبلوغ الغاية في ضوء رؤية مستقبلية لتلك الغاية، وتأخذ في الحسبان احتمالات التطور، وتبني نظرتها على أساس الترجيح بين الحلول المقترحة واختيار البديل المحتمل بالاستناد إلى تلك الرؤية. ولا يقصد بالوسائل هنا الوسائل العسكرية فقط، لأن الحرب الحديثة هي حرب نووية وصاروخية شاملة، تفترض تبني استراتيجية شاملة ترتبط ارتباطاً عضوياً بالسياسة والاقتصاد ويخرجها ارتباطها هذا عن إطارها السابق المقيد بالهيئات العسكرية ليحولها إلى علم وفن يهتم بهما صانعوا القرارات، ويسعى الجميع إلى ممارستهما ووضع مناهجهما وتدريسهما في الأكاديميات والجامعات والمعاهد المتخصصة. وأصبح المنظرون الاستراتيجيون من المدنيين على قدم المساواة مع المنظرين العسكريين ويعملون معهم في ميدان واحد يهدف إلى كشف قوانين الاستراتيجية ومبادئها وأسسها ومفاهيمها وتكييفها وفقا لأهداف الدولة والمجتمع وإمكاناتهما لتكون منهجا يسير عليه صانعوا القرار ومرجعا يستندون إليه في قراراتهم.
مراجع البحث:
– الجغرافية والمشكلات الدولية، الدكتور محمد عبد الغني سعودي (دار النهضة، بيروت م۱۹۷۱).
– عالم المعرفة -ج ٢
– الجغرافية السياسية لعالمنا المعاصر ( العدد ٢٨٣ – تموز -الاسـتـراتـيـجـيـة الـعـسـكـريـة ، إشـراف مـارشـال الاتـحـاد السوفييتي ف.د سوكولوفسكي، – كارل فون كلاوزفيتز في الحرب ، ترجمة أكرم ديري ( دار الرسالة ، بيروت ١٩٧٤م).
– ألكسندردوغين، أسس الجيوبولتيكا ومستقبل روسيا الجيوبولتيكي، ترجمة عماد حاتم، دار الكتب الجديد، بيروت، لبنان 2004 م.