حسين علي البسيس

محامي سوري-عضو المجلس التأسيسي لحزب بناة سوريا

مفهوم الاتجار بالبشر

إن التقدم والتطور التكنولوجي الهائل الذي حدث في العالم قد ساهم في تطوير كثير من المفاهيم ومنها مفهوم الاتجار بالبشر كونه يعتبر ذو دلالات كبيرة من ناحية التوصيف القانوني والتبعات القانونية ومن ناحية أخرى الأضرار الفادحة بتأثيرها الكبير على المجتمعات, فهو يعتبر من المواضيع والدراسات المهمة في ظل العولمة الجديدة ,لأن الاتجار بالبشر يشكل جريمة ضد الإنسانية منصوص عليها في كل القوانين الدولية.

قد كُتب عن تلك الجريمة الكثير من الأبحاث والمؤلفات لإيصال صورة صحيحة عن حقيقتها وما هيتها وتأثيرها وأثارها لأنها لاتزال ترتكب في كل يوم من حياة العالم  رغم التغيير في طرقها وأشكال جديدة مما يوجب مكافحتها من قبل دول العالم متحدة .

ولهذا لابد من الاطلاع على بعض التعريفات لهذا المفهوم حيث يقصد بالإتجار بالبشر تبني العديد من الجماعات الإجرامية المنظمة سواء كانت تلك الجماعات محلية أو دولية لاستخدامها طرق استخدام البشر واستغلالهم في جني الأرباح أيا” كان مجال الاستخدام سواء في ممارسة الدعارة أو العمل القسري أو نزع أعضائهم وبيعها وهذا المصطلح القانوني يعبر عن صورة مستحدثة للعبودية , ويوجد تعاريف أخرى لهذا المفهوم بحيث يعني التسخير وتوفير المواصلات وتوفير المكان أو استقبال الأشخاص بواسطة التهجير أو استعمال القوة أو أي وسيلة أخرى للضغط أو الاحتيال واستغلال الحقوق أو استغلال الضعف لدى الطفل أو المرأة أو تسليم أموال أو فوائد للحصول على موافقة سيطرة شخص على أخر لغرض الاستغلال .

إلا أن منظمة العفو الدولية عرفته بانه انتهاك حقوق الإنسان بما فيها الحق في السلامة الجسدية والعقلية والحياة والحرية وأمن الشخص والكرامة والتحرر من العبودية وحرية التنقل والصحة والخصوصية والسكن الآمن .

وبهذا المفهوم يتم بيع وشراء  الأفراد لأغراض ترتبط بالعمالة القسرية والاستعباد الجنسي والاستغلال الجنسي لأهداف تجارية عن طريق المهربين والمستفيدين ,وان كل هذه التعاريف تتطلب المعرفة الدقيقة بذلك المفهوم لأن الله سبحانه وتعالى قال (لقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) وقال الله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) فهذا يدل على المكانة العالية للإنسان لأنه يعتبر الركيزة الأساسية في هذه الحياة وله قيمة كبيرة في بناء هذا العالم وما تشهده البشرية من تطور هو رهين بما قدمه الانسان.

هذا يجعل من الأهمية معرفة تاريخ تلك الظاهرة التي على الأرجح أنها قد بدأت على شكل (الرق) في القرن الخامس عشر حيث تم نقل حوالي مليون عبد أسود نحو بلدان البحر المتوسط واستمرت تلك الظاهرة فترة طويلة حتى بدأت الأصوات تتعالى لإلغاء حالة الرق في كثير من الدول وكانت الدنمارك الدولة السباقة بإلغاء تجارة الرقيق عام 1792 وقد أعلنت الدولة العثمانية إلغاء تجارة الرقيق عام 1874 وفي عام 1906 انتهى الاتجار بالبشر رسمياً وأصبحت القوانين الدولية تمنع الاتجار بالبشر وتعاقب عليه ,حيث أصبحت ظاهرة الاتجار بالبشر ظاهرة عالمية تؤرق المجتمعات والسلطات المجتمعية وقد ظهرت عصابات منظمة (مافيات ) تتاجر بالبشر وبأعضائهم البشرية استغلالا” لفاقتهم وحاجتهم الماسة وهذا ما دعا دول العالم من خلال منظمة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية الأخرى المتخصصة أن تستنفر كل طاقاتها وجهودها للوقوف في وجه هذه الظاهرة العالمية المستهجنة والتي تتعارض مع أبسط قواعد ومبادئ حقوق الإنسان وقد تم اعتماد بروتكول باليرمو لمنع الاتجار بالبشر الصادر بتاريخ 25 تشرين الثاني عام 2000 والمؤلف من 20 مادة قانونية  والذي سلط الضوء بدقة على تلك الجريمة.

 تحولت ظاهرة الاتجار بالبشر إلى ظاهرة إجرامية خطيرة تهدف لتحقيق الربح المادي وتعتبر هذه الجريمة من الجرائم ذات السلوك الضار بمصالح الدول ولذلك يعتبر الاتجار بالبشر من الجرائم ضد الإنسانية المنصوص عنه في القوانين الدولية وبعض التشريعات الوطنية لبعض الدول لإن التقارير الدولية تشير إلى اتساع نطاقه في العقود الأخيرة ,وهذا مرتبط بعولمة الاقتصاد والاتصالات وتحرير الأسواق وتزايد أنشطة الشركات العابرة للقارات مما كان له تأثير بشكل سيئ جدا” فقد أصبح من السهولة إخفاء أنشطة الإجرام المنظم ضمن الأنشطة التجارية المشروعة ولابد من الإشارة إلى أن جريمة الاتجار بالبشر كما تتم على الساحة الدولية فهي قد تتم أيضا” في نطاق الساحة الداخلية لأية دولة ,ويعني ذلك أنه في المجال الدولي يتعلق الاتجار بالبشر بانتقـال الضحايا من موطنهم الأصلي إلى دولة أخرى أو إلى عدة دول أخرى أيا” كانت الوسيلة المستخدمة وذلك لاستغلالهم بصورة غير مشروعة ويرتبط ذلك الأمر بعصابات الجريمة المنظمة التي قد تتواجد في أكثر من دولة ويتم التنسيق بينها على اعلى المستويات انها مافيا الاتجار بالبشر.

 شهد المجتمع الدولي في الآونة الأخيرة تصاعد ظاهرة الاتجار بالبشر وبخاصة النساء والأطفال مترافق بانهيار الكتلة الشيوعية وتنامي بؤر الصراعات المسلحة سواء الداخلية أو الدولية ووجود العديد من مناطق العالم التي تعاني من الاضطرابات الداخلية وعدم الاستقرار قد شكل موردا” ومصدرا” متجددا” من الضحايا تنهل منه عصابات الجريمة المنظمة عبر الوطنية من اجل تحقيق الأرباح والمبالغ الطائلة من وراء استغلال هؤلاء الضحايا سواء عن طريق تجنيدهم أو نقلهم قسرا” واختطافهم أو الاحتيال عليهم بغرض استغلالهم في نشاطات غير مشروعة مثل سائر أشكال الاستغلال الجنسي أو الرق أو السخرة أو الخدمة قسرا” أو الاسترقاق أو نزع الأعضاء البشرية لأن الاتجار بالبشر هو نشاط يتم بطرق سرية وسنأخذ مثالا” من دولة متقدمة هي الولايات المتحدة الامريكية ,فقد تم عرض تقرير سابق للحكومة الأمريكية تم نشره في عام 2003 حيث قدر عدد الأفراد الذين يتم الاتجار بهم في العالم بكل عام يتراوح ما بين 800 ألف إلى 900 ألف شخص على الأقل ومنذ ذلك التاريخ الى حد الان يزداد العدد  بكل عام اضعاف كبيرة خلال كل تلك السنوات التي خلت حيث لازال يتم الاتجار في النساء والأطفال كل عام بنقلهم بطريقة غير شرعية إلى البلدان الأخرى وهذا النقل يعتبر شيء مختلف عن مفهوم التهريب الذي هو احد روافد تلك الظاهرة, كما قدرت الأبحاث التي أجرتها وزارة الداخلية الأمريكية في عام 2000 أن عدد النساء اللاتي تم تهريبهن داخل البلاد في عام واحد 1420 امرأة وذلك وفق الحالات التي تم الإبلاغ عنها وقد يكون العدد أكبر من ذلك وتشير الإحصائيات إلى أنه يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها ما يتراوح بين 45 إلى 50 ألفا من الضحايا الذين يتم نقلهم سنويا” إلى الولايات المتحدة الأمريكية, بل أن التقرير السنوي العاشر الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية عام 2010 قد أشار إلى أن ضحايا الاتجار بالبشر قد بلغ عددهم (12،3) مليون شخص.

ونتيجة تلك المعطيات تشير التقديرات إلى أن صور الاتجار بالبشر المختلفة تمثل ثالث أكبر نشاط إجرامي في العالم من جهة تحقيق الأرباح بعد الاتجار في السلاح والمخدرات ,بل إن هناك توقعات بأن تتقدم هذه التجارة في المستقبل على تجارة السلاح فهذه الجريمة بالنسبة لعصابات الجريمة المنظمة تعتبر أقل خطورة من تجارة المخدرات والسلاح إضافة الى الأرباح الكبيرة التي يمكن تحقيقها من استغلال الإنسان عدة مرات لفترة طويلة من الزمن, وبحسب التقارير الدورية الصادرة عن لجنة حقوق الإنسان فإن ملايين الأطفال في العالم يعملون في حرف يدوية شبيهة بالاسترقاق وأن 90% منهم من دول العالم الثالث وأكثرهم ممن يباعون أو يتخلى عنهم ذويهم ومع ذلك فإنه في عالمنا العربي لاتزال بعض التشريعات القانونية لم تتجه إلى سن قانون خاص بمكافحة ظاهرة الاتجار بالبشر والعقاب عليها وأن يحتوي على عقوبات رادعة تمنع الأفراد من الإقبال على أي فعل من أفعال الاتجار بالبشر اما في سوريا فيوجد مرسوم من 22 مادة صدر بعام 2010 عن نظام الأسد يعاقب على الاتجار بالبشر ولكن هذا النظام هو نفسه من قتل وهجر الملايين ودمر البلاد وتاجر بهم عن طريق مافيات تعمل ضمن منظومة الجريمة المنظمة ولازال متمسك بعقلية الدولة البوليسية الأمنية الاستبدادية ضاربا” عرض الحائط بكل القوانين الدولية .

%d مدونون معجبون بهذه: