العميد الركن المجاز

فايز عمرو

ضرورة إعادة هيكلة الجيش السوري وبناء جيش وطني محترف

توطئــــــــــــــــــــة:

من حق معظم القراء أن يستبقوا كاتب المقال ويعتبروا مجرد اختيار عنوان ** إعادة هيكلة الجيش السوري وبناء جيش وطني محترف ** محزنا، مؤسفا، مخيبا للآمال ومثيرا للجدل، لا سيما وأن الجيش موضوع البحث قد تم تأسيسه في الأول من أب 1945م وهو عمليا من أعرق الجيوش العربية، حمل شعاره وعلمه ثالوث مقدس ** وطن. شرف. إخلاص ** وقد عبر عن الآمال الكبرى المعقودة عليه بالنشيد الوطني الذي يبدأ بتحية حماة الديار, مالذي حدث ليكون هذا العنوان مبررا على أقل تقدير ونحن نقترب من الذكرى 77 للتأسيس, كيف كانت مسيرته وما هي العوامل التي أعاقت تحوله الى جيش وطني محترف؟

بطبيعة الحال ثمة مبررات كثيرة ومشروعة لإعادة طرح هذا الموضوع ليكون موضع بحث وتقصي ونقاش على جميع المستويات الوطنية العسكرية منها والسياسية والحقوقية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية, مما لا شك بأنها مبررات تنبع من النتائج المؤلمة لمسيرة هذا الجيش طوال ما يقرب من ثمانية عقود متتالية, بالطبع نحن أمام حقيقة مطلقة تدين هذا الجيش الذي استخدمته الأنظمة الاستبدادية اللاوطنية على نحو مأساوي كجيش احتلال ساهم في قتل وتشريد شعب بأكمله وأقدم على تدمير قرى وبلدات ومدن فوق رؤوس ساكنيها الأبرياء لمجرد رفع أصواتهم المطالبة بالحرية والكرامة, وتجاوز في كثير من المواقع همجية جيوش الاحتلال في العصور البائدة, بالطبع لم يكن جيشا وطنيا أو سوريا حتى, وأصبح من منظور عامة السوريين عبارة عن جيش احتلال ميليشيا وي فئوي إرهابي.

هنا لابد من سرد حقيقة في غاية الأهمية كان لها الدور الأكبر في تاريخ الجيش السوري ومسيرته غير الوطنية لاسيما منذ استيلاء البعث على السلطة، هذه الحقيقة تتمثل في عجز أو فشل السلطات الثلاث التنفيذية, التشريعية والقضائية في إقامة الدولة الوطنية الديمفراطية، بالتالي الفشل في تنظيم العلاقة مع المؤسسة العسكرية وترسيخ احترافيتها الدستورية من حيث البنية والتسليح والمهام والواجبات, كما عجزت تلك السلطات عن ضبط وتنظيم عمل أجهزة الأمن العسكرية والمدنية.

مقـــــــــــــــــدمة:

الشيء المؤكد بأن الجيش السوري والأجهزة الأمنية لعبت دورا محوريا وفاعلا في مختلف مجالات الحياة السياسية منها والاقتصادية والقانونية والتربوية والاجتماعية منذ فجر الاستقلال حتى تاريخه, غير أن سيطرة البعثيين على السلطة كانت المحطة الأخطر في تاريخ سورية المعاصر, حيث تم تحويل الجيش من مؤسسة ذات طابع وطني أقرب الى الاحترافية الى مؤسسة ذات طابع عقائدي حزبي قومجي الظاهر يتبنى عقيدة الحزب (الفئوي) الواحد القائد للدولة والمجتمع.

 ومع تطبيق شعار قائد المسيرة الذي تبناه المؤتمر القطري الخامس لحزب البعث عام 1971م تحول الولاء العقائدي الحزبي للجيش الى الولاء لشخص قائد مسيرة الحزب والشعب الذي جمع بيده السلطات الثلاث التشريعية, القضائية والتنفيذية, وأصبح يختزل في ذاته الدولة والمجتمع وفقا لهذا الشعار وتعريفه.

كان يدرك حافظ الأسد أهمية المؤسسة العسكرية الوطنية وخطورتها على النظام الحاكم إذا ما تمت تربية منتسبيها على أساس احترافي وطني، لذلك لم يكتفي بضمان الولاء المطلق للقادة العسكريين بل أقدم على هيكلة الجيش وتحويل النظام التربوي العسكري الوطني فيه الى نظام تربوي يستمد مبادئه من أدبيات حزب البعث وقدسية أمينه العام, علاوة على أن المدارس والكليات العسكرية أصبحت ممنوعة على غير المنتسبين لحزب البعث, هكذا أصبح الجيش الحارس العقائدي الحزبي كما يبدوا ظاهريا, لكنه في حقيقة الأمر مجير لحماية شخص قائد المسيرة ونظامه العصبوي الاستبدادي, بحيث يستحيل لأية قيادة عسكرية وطنية أن تقدم على مجرد التفكير بمعارضته أو المساس بنظام حكمه.

على هذا النحو تحول الجيش الى مؤسسة تفتقد الاستقلالية الايديولوجية والحزبية والأمنية متجاوزا الدور الوظيفي الاحترافي الوطني الذي يفترض أن يقوم به.

مع قدوم الأسد الأبن للسلطة كانت مؤسسة الجيش قد تحولت في معظم مفاصلها الى مؤسسة يرأسها قطاع الطرق واللصوص والفئويين المأجورين برعاية ما يسمى القائد الذي يعتبر ذاته مالكا لمزرعة.

لقد عكست السنوات العشر من عمر الانتفاضة الشعبية معظم الظواهر السلبية التي كانت تفتك بجسد ما يسمى بالجيش العقائدي والأجهزة الأمنية الفئوية, كما أعادت الى الذاكرة الوطنية ضرورة توفر قيادة عسكرية وطنية تكلف بمهمة إعادة هيكلة وبناء الجيش السوري على أسس وطنية احترافية, بحيث تشكل الثقافة السياسية الديمقراطية والحوكمة الديمقراطية الأسس المتينة للتربية العسكرية في بنيتها، وهذا يتطلب تحقيق اجماع وطني للوصول الى سلطة وطنية منتخبة تساهم بشكل فعال على تصحيح العلاقة بين المؤسسة العسكرية وباقي مؤسسات الدولة السيادية.

مما سبق نستنج أنه من غير الممكن احداث تغييرات بنيوية في هياكل السلطة الحاكمة والوصول الى دولة ديمقراطية تعددية عصرية دون القيام بخطوات حقيقية من أجل اعادة بناء الجيش السوري على أسس وطنية وتحويله الى جيش وطني محترف, تصاغ عقيدته العسكرية للدفاع عن الوطن وحمايته أرضا وشعبا والمساهمة في الحفاظ على الأمن الوطني والاستقرار والسلم الأهلي وليس الدفاع عن الحاكم أو النظام الاستبدادي وتكريس هيمنة السلطات القمعية.

إن الهام والجوهري في الموضوع يتعلق بالقدرة على تأمين دستورية وقوننة احترافية الجيش من خلال تربيته العسكرية الوطنية وتحديد حجمه من حيث القوى البشرية والتسليح والتموضع والانتشار والعلاقة المجتمعية وعلاقته بالسلطات السيادية الأخرى وطبيعة المخاطر الأمنية التي تستوجب تدخله في مواجهتها, وإدخال الثقافة السياسية والحوكمة الديمقراطية في بنيته, وهذا يحتاج الى إجماع وطني سياسي ومجتمعي كما أسلفنا ويقع بشكل أساسي على عاتق السلطة السياسية الوطنية المنتخبة والسلطة التشريعية والقضائية بالتنسيق والعمل مع المجلس العسكري الوطني.

  • أهم التحديات التي تواجه اليوم بناء الجيش الوطني السوري على أسس احترافية:
  1. غياب الاجماع الوطني السياسي والمجتمعي وعدم وجود سلطة تنفيذية وتشريعية وطنية مدنية منتخبة ديمقراطيا.
  2. وجود العديد من مراكز القوى في بنية الجيش ومؤسسات النظام الفاسدة المتغولة في الدولة وتصديها لعملية بناء الدولة الوطنية الديمقراطية واحترافية الجيش.
  3. صعوبة ازالة الروابط الطائفية, الاثنية, القومية, الحزبية, المناطقية والشخصية التي أفرزتها السنوات العشر الماضية.
  4. بنية الجيش العقائدية الحزبية والفئوية التي اورثت بذور ثقافة التحيز الطائفي التي زرعها النظام الاوليغارشي الاسدي, مما أفقد الجيش الثقة الشعبية والشرعية والمهنية والتوازن الوطني ومنح الأقلية المذهبية القوة الضاربة التي لن تتخلى عنها بسهولة لصالح المشروع الوطني.
  5. عدم توفر العدد الكافي من الكوادر الوطنية العسكرية المؤهلة والنزيهة التي تمتلك الثقافة السياسية الديمقراطية لتتولى مهمة القيادة على مختلف المستويات, يتطلب من المجلس العسكري الوطني بذل الجهود المضاعفة لإيجاد وتدريب تلك الكوادر.
  6. استغلال طرفي الصراع للظروف القائمة من أجل إعادة إنشاء نظام سياسي حزبي أيديولوجي والتسييس المستمر للجيش وممانعة بنائه على أساس احترافي وطني.
  7. تناقض الرؤى الأمنية لطرفي الصراع: عدم قبول النظام بأية صيغ تطويرية أو اصلاحية تقوض أدوات حكمه وفي مقدمتها بناء جيش وطني محترف وجهاز أمن وطني خاضع للحوكمة الديمقراطية, كما تتبنى جميع فصائل المعارضة نظرية النسف الكلي للنظام وتفكيك الجيش والأجهزة الامنية وإعادة بنائها من جديد على أسس أيديولوجية حزبية وفق رؤيتها, يتطلب ذلك تشكيل مجلس عسكري وطني مستقل يتولى مسؤولية إعادة هيكلة الجيش وبنائه على أساس وطني محترف كمهمة أولى تسبق الخطوات التالية للانتقال السياسي السلمي للسلطة.
  8. انتشار السلاح وتبعيته للخارج واستخدامه لأهداف سياسية غير وطنية, والذي يشكل مدخلا لفوضى امنية تزعزع السلم الأهلي والاستقرار بالتالي تشكل عقبة أمام عملية البناء.
  9. المديونية الهائلة للدولة وانهيار الاقتصاد السوري إضافة للحجم الكارثي من الدمار الذي حل بالبنى التحتية والفوقية التي ستعيق عملية إعادة الحياة الى طبيعتها يفرض على المجلس العسكري الوطني اتباع التسلسل وفقا لأولويات بناء الاحتراف العسكري مستعينا بالدول الصديقة على مبدأ المصالح المتبادلة ضمن إطار السيادة الوطنية.
  10. الانقسام المجتمعي الحاد (قوميا, أيديولوجيا, دينيا, مذهبيا, مناطقيا) بسبب سياسات النظام القمعية والجهات الداعمة له من جهة والأخطاء الجسيمة التي ارتكبت في ادارة الازمة من قبل المعارضة والدول الداعمة لها من جهة أخرى.
  11. تغييب مبدأ العدالة الانتقالية وما ينتجه من ردود أفعال وسلوكيات ثأرية تدخل البلاد في جو من التوتر والانفجار المجتمعي وتزيد من صعوبات الاصلاح والبناء على كافة المستويات.
  • المبادئ الأساسية للاحتراف العسكري:

كما هو سائد في الأنظمة الديمقراطية التعددية التي تسود فيها بيئة سياسية شفافة وتعاونية وتؤسس جيوشها على أسس وطنية سليمة يجب أن ترتكز احترافية الجيش الوطني السوري على المبادئ التالية:

  • خضوع الجيش للسلطة المدنية السيادية المنتخبة في مرحلة الاستقرار الوطني, كما يجب حماية العمليات الديمقراطية وقبول شرعية مؤسساتها, وعدم الانحياز في العملية السياسية, واحترام حقوق الانسان والدفاع عنها.
  • قوننة الضوابط الواضحة والقوية التي تمنع السلطة السياسية من التلاعب بالجيش وتقويض الاحتراف العسكري لمصلحة أية جهة كانت تفقده استقلاليته السيادية.
  • ولاء الجيش السوري الوطني المحترف الواضح والمتوازن للدولة واحترام المجتمع المدني وعدم التدخل في الجدل السياسي بينهما, نظرا لحساسية مرحلة التحول الى الديمقراطية يمكن أن تعمل بعض الجهات الفاعلة لإشاعة الفوضى والاضطراب, ومن دون دعم الجيش الثابت للحياد وللسلطة السيادية الديمقراطية ستكون عملية التحول الى الديمقراطية محفوفة بالمخاطر.
  • الالتزام بالحياد في الصراع السياسي بين الأحزاب الديمقراطية, وتبني الثقافة المؤسساتية, والثقافة الأخلاقية التي يمثل فيها روح الجندي المدرب الذي يتلقى الراتب الذي يستحقه ركيزة أساسية لثقافة الجيش المؤسساتية وانجاح مهمته.

الخاتمـــــــــة:

إن التحديات التي تواجه إعادة هيكلة وبناء الجيش الوطني السوري وإضفاء الطابع الاحترافي عليه كثيرة جدا, غير أن التغلب عليها ليس مستحيلا, لقد تم استغلال حالة عدم الاستقرار التي نشأت في البلاد (بسبب كثرة الانقلابات العسكرية وعدم قدرة النخب السياسية على بناء الدولة الوطنية) من قبل السلطة البعثية ولاحقا من قبل العائلة الاسدية للوصول الى السلطة والتمسك بها لصالح قلة قليلة على حساب السواد الأعظم من الشعب السوري.

من المفروض أن يكون الجيش السوري كمؤسسة وطنية سيادية مسؤولة عن الدفاع عن الوطن وحماية الشعب والمساهمة مع مختلف مؤسسات الدولة الأخرى في الحفاظ على الأمن والاستقرار والسلم الوطني المجتمعي, لذلك يجب أن تكون غير مسيسة لصالح أية سلطة حاكمة بل تكرس نفسها حصريا لتنفيذ مهمتها.

إن التحديات التي يواجهها النظام الدستوري من قبل رأس النظام الحاكم وقادة الأجهزة الأمنية والقادة العسكريين والسياسيين الذين ترتبط مصالحهم مع النظام في شبكة عنكبوتية معقدة يجب أن تمحى من الذاكرة الوطنية لعموم السوريين, لأن هذا التحدي يقوض مصداقية الجيش وثقة الجماهير به, هنا يبرز دور المجلس العسكري الوطني المستقل لتجاوز أخطر المحطات التي تواجه احترافية الجيش.

 كما هو معلوم لعموم السورين تماما عجز الجيش السوري أو عدم تربيته لتنفيذ المهام الأساسية في الدفاع عن الوطن وصيانة استقلاله وسيادته رغم الكلفة الباهظة التي ينفقها النظام على ألته العسكرية منذ ستة عقود, لأن الهياكل العسكرية بنيت على أساس مواجهة المخاطر التي يواجهها النظام الديكتاتوري وليس من أجل مواجهة التحديات الأمنية الوطنية.

إن الاحتراف العسكري ليس مجرد مفهوم إداري تنظيمي, حيث يعتمد السلم الأهلي واستقرار المجتمع ومجمل نشاطه على سلوك الجيش والقوات المسلحة.

إن الاحتراف العسكري للجيش الوطني السوري يغرس القيم الأساسية للثقافة الأخلاقية, وينمي القيم والخصائص الوطنية السليمة لدى جميع أفراد القوات المسلحة من خلال ولاءها للوطن والدستور والخضوع للسلطة المدنية المنتخبة ديمقراطيا, والشعور بقدسية الواجب واحترام سيادة القانون, عندئذ سيتجاوز الجيش مسألة الاحتراف وسيسهم بشكل فعال وملموس في تحسين الأمن وترسيخ القيم الديمقراطية في الدولة وسيكسب مزيد من الثقة والاحترام من قبل المواطنين.

%d مدونون معجبون بهذه: