
العميد الركن المجاز
فايز عمرو
الموقف التاريخي لمحبي الوطن …. أحلامهم بين كماشة السلطة الحاكمة والطابور الخامس
لقد حفــل تاريخ ســورية المعاصر بالاضطهاد وممارســـة الديكتاتورية والاستغلال وكافة أشكال التمييز نتيجة للصراعات السياسية التي بدأت مع فجر الاستقلال على السلطة وعدم قدرة (رغبة) الحكومات المتعاقبة على بناء دولة المواطنة وإرساء القواعد الصحيحة والثابتة لممارسة الحكم الرشيد من خلال مؤسسات ديمقراطية تحترم وتصون كرامة وحقوق جميع السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم القومية، العرقية، الدينية، الطائفية.
دون أدنى شك جاء نظام البعث عام 1963م تتويجا لحالة الاضطراب ليكرس مناخ من التسلط والاستبداد والتمييز العـرقي والطائفي تحت شعارات وأهداف قومية زائفة.
لقد استخدم هذا النظام شتى وسائل القمـع والإرهاب والجريمة من أجل اسكات كل الأصوات التي تنبض بالحياة والمطالبة بالحرية والكرامة حتى تحولت سورية بجغرافيتها الى مقبرة جماعية على مختلف الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية …. الخ.
عندما انطلقت شرارة الثورة بدأت العصابة الحاكمة بتدمير الوطن وإبادة شعبه على نحو منهجي ومدروس، مع اتساع رقعة الثورة كانت تتصاعد وتيرة الدمار والقتل والذبح والاعتقال في صورة مأساوية وحشية فريدة في التاريخ الإنساني.
مع أن التضحيات التي قدمها شعبنا كانت اسطورية في مواجهة الألة العسكرية لإحدى أكثر الأنظمة الديكتاتورية وحشية، لم تنطفئ جمرة النضال على الرغم من ازدياد وحشية وهمجية العصابة الحاكمة وبقي هذا الشعب حاملا راية النضال الوطني من أجل تحقيق أهدافه المشروعة في القضاء على الاستبداد والظلم وبناء دولة العدالة والمساواة.
لم يرضخ الكثير من الضباط وصف الضباط والجنود المخلصين لوطنهم وشعبهم في مختلف وحدات وقطعات وتشكيلات ومؤسسات الجيش للأوامر العسكرية القاضية بتوجيه بنادقهم الى الصدور العارية، كما رفض الكثير من الضباط الموجودين في مواقع قيادية اصدار الأوامر لاستخدام الرصاص في مواجهة الانتفاضة الشعبية السلمية، بل انحازوا الى جانب الملايين الثائرة وانشقوا عن صفوف الجيش (الذي تحول الى جيش احتلال وأداة قتل وتهجير وتدمير بيد العصابة الحاكمة) في ظروف تكاد تكون مستحيلة معرضين أنفسهم وعائلاتهم وأقاربهم وأبناء قراهم وبلداتهم الى خطر الموت أو الاعتقال أو التهجير, لم يتخلف هؤلاء الابطال عن أداء واجبهم بل كانوا في مقدمة الجموع الثائرة التي أجبرتها العصابة الحاكمة على استخدام السلاح للدفاع عن النفس، منهم من قضى نحبه ومنهم من أصيب بإعاقة دائمة والبعض منهم تم اعتقاله من قبل استخبارات العصابة الحاكمة بالتنسيق والتعاون مع الطابور الخامس (الداخلي والخارجي) الذي تسلل بطرق شتى الى مفاصل الثورة.
النتائج التي ترتبت على انشقاق العسكريين
من المؤكد تماما بان انشقاق الأعداد الكبيرة من الكوادر العسكرية الوطنية تركت أثارا سلبية خطيرة في صفوف الجيش والقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي والأجهزة الأمنية، تعرضت بسببها السلطات العسكرية والسياسية والأمنية العليا الى هزة معنوية وفقدت توازنها بشكل مخيف انعكس ذلك من خلال الأوامر التي أصدرتها لاستخدام الأسلحة الاستراتيجية والمحرمة دوليا في مواجهة جموع المتظاهرين السلميين وفي كثير من المواضع من خلال توجيه ضربات تدميرية للمستشفيات ودور العجزة وبيوت العبادة والمدارس وعلى المناطق السكنية مستهدفة النساء والشيوخ والأطفال والمعاقين.
في هذا السياق يمكننا بخلاصة سريعة تبيان الاثار السلبية غير المتوقعة التي نجمت عن انشقاق العسكريين والمستخدمين من الجيش والقوات المسلحة:
- تصدع البنية التنظيمية لمعظم التشكيلات المقاتلة في الجيش نتيجة انشقاق عدد كبير من الضباط العاملين والمجندين وصف الضباط والافراد.
- انخفاض مستوى القدرة القتالية للجيش نتيجة النقص الحاد والمفاجئ في القوى البشرية.
- حرمان الجيش من القوى البشرية الجديدة لرفض معظم السوريين إرسال أبنائهم لأداء خدمة العلم بسبب تأثير ظاهرة الانشقاق.
- فقدان معظم أنواع الأسلحة والوسائط القتالية لخصائصها وميزاتها الفنية والقتالية بسبب تجاوز فترة استخدامها للمعدلات المقررة دون اجراء عمليات الكشف الدوري والصيانة اللازمة والإصلاح بسبب توقف العمل في مراكز الصيانة الفنية ورحبات الإصلاح نتيجة انشقاق اعداد كبيرة من العاملين فيها.
- بيد أن الأثر الأكبر تمثل في فقدان السوريين الثقة بهذا الجيش وقيادته ولم يعد في منظور العامة بانه جيش وطني بل بدأوا ينظرون اليه بنفس نظرتهم للأجهزة الأمنية التي ذهبت بعيدا في سفك دماء السوريين المطالبين بالحرية والكرامة، وأصبحت القناعة متجذرة في ذاكرتهم بان الجيش السوري يعمل تحت شعار (الأسد أو نحرق البلد).
هكذا رفعت الأعداد الكبيرة المنشقة من العسكريين القناع عن الوجه الإرهابي الاجرامي غير الوطني لهذا الجيش الذي تم بناؤه على حساب قوت الملايين وكشفت الستار عن العلاقة العضوية المصلحية له مع الأجهزة الأمنية التي تفاخرت بقهرها وقتلها واستباحتها كرامة السوريين على مدى خمسة عقود من حكم عائلة الأسد.
ردود فعل العصابة الحاكمة
لم تتأخر ردود أفعال العصابة الحاكمة لمواجهة تبعات قضية انشقاق الكوادر العسكرية التي شكلت محطة هامة في تاريخ الثورة ونفذت أجهزته الأمنية حملة اعتقالات واسعة ذات طابع طائفي مذهبي قذر شملت أعداد كبيرة من الضباط وصف الضباط والجنود في صفوف الجيش والأجهزة الأمنية وقوى الأمن الداخلي.
تمت تصفية الألاف منهم في السجون والمعتقلات دون محاكمات بعد تعرضهم لشتى أنواع التعذيب التي لم تشهد البشرية لها بشاعة مماثلة.
كما لجأت العصابة الحاكمة لتفعيل دور شبكتها العنكبوتية مع الشركاء والأصدقاء في الإقليم من أجل استخدام كافة الأساليب الخبيثة لمنع الاستفادة من الكوادر العسكرية المخلصة والمؤهلة في قيادة العمل المسلح الذي أصبح بمثابة أمر واقع لا يمكن تجنبه.
رد فعل منتسبي الطابور الخامس:
كما لم يتأخر رد فعل الطابور الخامس الذي وضع يده على جميع مفاصل ما أطلق عليها مؤسسات المعارضة وقياداتها, حيث بدأ برسم وقيادة وتنفيذ مخطط تآمري خطير لمواجهة الكوادر العسكرية الوطنية المخلصة واحتواءها ومنع تصدرها للعمل العسكري وتحويل العسكريين المنشقين الى مجموعات وافراد تبحث عن ثمن قوت عائلاتها.
مثلما ابدعت العصابة الحاكمة في التنكيل بألاف العسكريين والثائرين والمعارضين والتنكيل بأفراد عائلاتهم وتصفيتهم في السجون والمعتقلات، نجح الطابور الخامس بجناحيه الداخلي (العناصر القادمة من الداخل) والخارجي (من المعارضة الخارجية) بالتنسيق مع عدة جهات استخباراتية إقليمية ودولية في ابتكار أقذر الطرق لإقصاء كافة الكوادر القيادية العسكرية وحرمانها من أداء واجبها الوطني المهني لتوحيد عشرات الفصائل المسلحة وقيادتها في مواجهة جيش العصابة الحاكمة وعشرات الميليشيات الإيرانية الإرهابية وعناصر الحرس الثوري الإيراني الإرهابي.
كما هو مرسوم ومخطط له مسبقا من قبل هذا الطابور والدول الداعمة له تم إضفاء الشرعية العسكرية للفصائل والمجموعات المسلحة من خلال تشكيل قيادات عسكرية صورية تضم مجموعة من الضباط الفاشلين المرتبطين المنافقين اللاهثين خلف المنافع الشخصية على نحو خال من الاخلاق والقيم والمبادئ، حيث أصبح الكثير من هؤلاء العسكريين الى جانب تجار الدم وقطاع الطرق والمارقين من أصحاب رؤوس الأموال والشقق الفاخرة والعربات المقاومة للرصاص وحصل البعض منهم في الدول التي تشغلهم على الجنسيات والإقامات الدائمة والحراسات الخاصة.
هذا في الوقت الذي يعمل فيه ألاف الضباط ومنهم الجنرالات (الذين أثروا الجوع والحفاظ على الكرامة) في الحقول الزراعية والاعمال اليدوية وأحيانا في الورش المختلفة والمصانع البدائية من أجل كسب ثمن لقمة الكرامة لهم ولأسرهم. كما أجبرت ظروف الحياة الكثير منهم على ركوب البحر في مغامرة غير محسوبة للوصول الى بلدان تحترم إنسانيتهم.
لم تبخل الجهات المشغلة لمنتسبي الطابور الخامس الذين شاركوا أيضا في مسرحية التوقيع على تسليم ما حرر بدم الشهداء دون قتال لمختار حي المهاجرين، بل كانت سخية الى أبعد الحدود، حيث تحول منتسبي هذا الطابور والمرتبطين بهم في مختلف مؤسسات المعارضة الى أصحاب أملاك وأطيان، عربات فاخرة وحسابات بنكية بالعملة الأجنبية وأصحاب رؤوس أموال منهوبة من المساعدات التي قدمها المجتمع الدولي لعامة الشعب السوري النازح والمهجر كما منحوا شرف المواطنة في الدول التي تشغلهم من أجل حمايتهم وتأمين استمرارية عمالتهم الرخيصة.
ما يثير الدهشة بأن هؤلاء أصبحوا يتفاخرون بتلك العمالة والتبعية المطلقة ويتباهون بدورهم القذر في تسليم البلد للعصابة الحاكمة ويعتبرون ذلك إنجازا وطنيا يكتب في سجلهم التاريخي.
خلاصة القول: إن جموع المنشقين عن مؤسسات النظام وعلى نحو الخصوص العسكريين منهم شكلوا صدمة كادت أن تكون قاضية عليه لو أحسن استثمارها من خلال برنامج وطني واضح بشقيه العسكري والسياسي, غير أن المنافع المشتركة بين السلطة الإرهابية الحاكمة في دمشق (من اجل الحفاظ على النظام الاستبدادي الفئوي المافيا وي) وبين قيادات المعارضة الصورية العميلة والفاسدة (من أجل الحفاظ على مكاسبها المادية وحماية المكتسبات المتنوعة التي حصلت عليها من قبل الدول الداعمة لها) شكلت حجري الرحى لسحق أي مجموعة وطنية تتبنى مشروعا لإنقاذ ما تبقى من الوطن وإعادة المهجرين والنازحين الى ديارهم، ولن نكون مخطئين فيما لو جزمنا بأن اساطين الفساد في المعارضة أصبحوا أكثر عداء وعدوانية في مواجهة الكوادر الوطنية المنشقة عن النظام والمخلصة للشعب ومطالبه المشروعة، كما أن تلك الرموز الفاسدة تعمل ليل نهار من أجل عرقلة مسار الحل السياسي وتسعى بكل قواها من أجل استمرارية الحالة الراهنة في سبيل زيادة مكاسبها من جهة وخوفها من الحساب القادم من جهة أخرى.
في الختام: إن الكوادر الوطنية وعلى نحو الخصوص العسكرية منها عندما آثرت الوقوف الى جانب شعبها لم تكن تبحث عن أية منافع آنية بل كانت تلبية لنداء الواجب الوطني والأخلاقي واستجابة لمضمون القسم الذي اقسمته في الدفاع عن الوطن والشعب, هذه الكوادر تؤكد اليوم وعلى نحو مبدئي وثابت بأنها لا زالت وفية للقيم التي تؤمن بها، وستكون قادرة بإذن الله على تحطيم الطوق المفروض عليها وإنقاذ الوطن بالتعاون مع جميع المخلصين.
إن وطننا مهد الحضارة الإنسانية حامل رسالة المحبة والسلام والعدالة، لم يكن يوما مصدرا للإرهاب والعنف والفساد إلا في ظل دولة البعث وقيادات المعارضة العميلة، وإن الكوادر المنشقة عن جيش ومؤسسات النظام تسعى لإسقاط نظام الاستبداد والمحسوبية والفساد واستعادة الوجه الحضاري والموقع الطبيعي لهذا الوطن العريق.