حسن النيفي

باحث وكاتب سوري

عن الهوية الوطنية السورية الغائبة

يطالعنا في الحيّز الناصع من حصاد ثورة السوريين ثلاثة مُنجزات عظيمة، ولا شك أنها نتاجٌ  للفتوحات الثقافية للثورة، أكثر من كونها نتاجاً لأيّ إرهاصات سياسية أو عسكرية، ولعل أولى هذه المنجزات ( التفوّق على حالة الخوف) الذي أسست له، ومن ثم عزّزت عوامل استمراره واستفحاله طيلة نصف قرن، السلطة ذات المنهج الأمني التوحّشي القمعي، وحين صدحت حناجر السوريين بصيحة الحرية، فإنهم أطاحوا بالصخرة التي كانت تحول بينهم وبين الدخول إلى فضاء الكرامة، فضلاً عن أن زوال كوابح الخوف من النفس هو ما يجعل الإرادة حرّة، وبالتالي قادرة على الاختيار والمبادرة.

 ويتمثّل المُنجَز الثاني ب ( تحرّر الوعي ) أي قدرة السوريين على التفكير من خارج منظومة الأفكار والمفاهيم التي تفرضها السلطة من جهة، وكذلك تحطيم الوصاية الفكرية والثقافية التي كانت تُختَزل بمقولة ( الدولة أدرى بمصلحة المواطن ) والتي كانت تجد ترجمتها العملية بحظر التفكير والنقاش بكل ما لا يرضي الحاكم.

 ويتمثّل المُنجَز الثالث بانفتاح السوريين – إجتماعياً وثقافياً وإنسانياً – على محيطهم الإنساني الواسع، وإدراكهم أن الروابط المجتمعية بين البشر لا تحكمها الأعراق ولا الأديان ولا المذاهب فحسب، بل ثمة ما هو أرحب أُفقاً، وأعني الروابط الإنسانية المشتركة بين البشر، وهي روابط تستمدّ قوتها وشموليتها من عمقها الكوني وبعدها الإنساني.

بعيداً عمّا مُنيت به الثورة السورية من إحباطات على المستوى السياسي والعسكري، كان يمكن لهذه المنجزات الثلاثة التي أنتجت وعياً سورياً جديداً، أن تراكم على مدى عشر سنوات مضت، نتائج  ذات تجليات ملموسة على حياة السوريين، كأنْ تسهم في عملية التماسك الاجتماعي مثلاً، والحيلولة دون النكوص إلى حالات مجتمعية موغلة في البدائية، أو تسهم كذلك في إنضاج مفاهيم وبرامج وطنية جامعة، وخطاب وطني بديل عن النبرة الطائفية أو العرقية أو المذهبية، إلّا أن واقع الحال يشير إلى أن الوعي السوري الجديد والحامل الحقيقي لتلك المنجزات الثلاثة، ما يزال يراوح بين حالتين متناقضتين، الأولى حركية مزدهرة توحي بانتعاش فكري وحراك توعوي، وتتجلّى على مستوى الأفراد من مثقفين وناشطين وكتّاب، أما الحالة الثانية فلا تبرح التصحّر والارتكاس والاعتياش على أفكار تنتمي إلى ما قبل ثورة 2011 ، وتتجلى هذه الحالة لدى الجماعات السياسية والدينية والأطر الفصائلية العسكرية وربما العديد من الأحزاب والتجمعات الأخرى، الأمر الذي يؤكّد أن جذر المشكلة بالنسبة إلى المجتمع السوري إنما تكمن في عدم قدرته حتى الوقت الراهن على بلورة الأسس الجامعة لمعرّفات هويته الوطنية السورية، ولعل الإجابات التي قدّمتها بعض الجماعات ما تزال بعيدة عن ملامسة ما يمكن أن ينظم عقد السوريين ويلم شتات هوّيتهم المتشظية أو الغائبة.

لقد أصدر المجلس الإسلامي السوري في الثامن من شهر شباط  2021 وثيقة أسماها ( وثيقة الهوية السورية)، وتتضمن مقدمة قصيرة، وبنوداً خمسةً، يرى أصحابها أنها تجسد المعالم الأساسية التي تتشكل منها، أو تتقوّم عليها الهوية السورية، ويمكن بيان فحوى البنود التي حملتها الوثيقة بالإختصار التالي: (الإسلام دين غالبية السكان في سورية وهو ثقافة وحضارة لكل السوريين – سورية جزء من العالم العربي والإسلامي  – اللغة العربية هي اللغة الرسمية والسائدة – معرّفات الثقافة السورية عمرانياً واجتماعياً هي جزء من الهوية السورية – حقوق باقي مكونات الشعب السوري محفوظة ومصونة)، ولعل فحوى هذه الوثيقة يتأسس على ثلاثة عوامل، هي بنظر المجلس الإسلامي الأسس الحاملة للهوية السورية، والتي تتمثل ( بالعرق والدين واللغة)، ولكن السؤال الذي يُطرحُ بقوّة: أليست هذه الأسس الثلاثة ذاتها هي معطيات تاريخية لازمت المجتمع السوري منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وكذلك ألم تكن هذه الأسس تجسّد المحتوى الإيديولوجي لفكرة القومية العربية وهي ذاتها الإيديولوجيا التي ما يزال نظام الأسد يلتحف بها؟ لماذا لم تستطع هذه الأسس الثلاثة أن تحول دون حالة الانفجار المجتمعي التي نشهدها الآن؟

وفي موازاة ذلك، قدّمت جماعات أخرى بضاعتها الفكرية مُدّعيةً أنها ستعبّر عن الفحوى القيمي للسوريين، فكان مشروع ( الأمة الديمقراطية) لحزب الاتحاد الديمقراطي (pyd ) الموجه السياسي لقوات سورية الديمقراطية، وكذلك قدّمت داعش ومشتقاتها مشروع ( الأمة الإسلامية) وكلاهما مشروعان عابران للوطنية، فرضا نفسيهما على شطر كبير من الجغرافية السورية بالقوة والإكراه، ولم يكن وجودهما بالأصل ناتجاً عن خيار شعبي سوري. في حين ما تزال بعض المجموعات والقوى اليسارية التي ترفع شعار العلمانية تعزو فشلها في إنجاز أي مشروع إجتماعي إلى تخلّف المجتمع بسبب تجّذّر القيم الدينية والتقليدية لدى أكثرية السوريين، وهي قلّما تبحث في إعادة النظر في نزعتها النخبوية وخطابها الإستعلائي الذي كان على الدوام مخلصاً لمصادره الإيديولوجية أكثر من انتمائه للواقع المعاش.

لعله بات من الثابت أن ثمة ( هوّيات سورية) حاولت سلطات الأمر الواقع المتعاقبة فرْضها على السوريين بالإكراه، بدءًا من الخطاب الإيديولوجي القومي للسلطة الأسدية، مروراً بالخطاب الذي تحاول فرضه السلطات الأخرى الراهنة، في حين يبقى سؤال السوريين قائماً: من نحن، ما الذي يجمعنا؟ وما هي تطلعاتنا المشتركة التي يمكن أن تكون ناظماً لعقدنا المتناثر؟

لعله من الصحيح أن سورية هي بلد عربي، أي هي ذات أكثرية سكانية عربية، وتنتمي إلى إطار جغرافي هو الوطن العربي، ولعله من الطبيعي أن تكون اللغة العربية هي لغة الأكثرية، كما أن الإسلام هو دين الأكثرية، فهذه المعطيات جميعها تجسّد حقائق وليست استنتاجات، ولكن ما هو صحيح أيضاً أن سمة العروبة هي مُعطى تاريخي لا خيار للمرء في إيجاده، وهي ليست سمة تمايز عن الآخرين، فضلاً عن أن السياق الصحيح لمفهوم العروبة يحيل إلى أن الإنتماء إلى العروبة هو انتماء ثقافي وليس عرقياً، كما أن الإسلام هو معتقد ديني لا حقّ لأي امرىء فرضه بالإكراه على غير المسلم، وفي مقابل ذلك، ثمة مكوّنات بشرية في سورية ، هي ليست عربية، وكذلك ليست إسلامية، فهل يجوز إلزامها بالانسلاخ عن انتماءاتها العرقية وعقائدها الدينية، وإجبارها على تبنّي تلك المعطيات التاريخية للأغلبية السكانية؟

يمكن الذهاب إلى أن التاريخ المعاصر للشعوب يكشف لنا عن نمطين للهويّات المجتمعية، الأول (ثابت) يتشكل وفقاً لمعطيات تاريخية ثابتة كالعرق واللغة والدين، وهذا النوع يتشكل مرة واحدة ثم ينغلق على ذاته، وهو ملازم – في الغالب – للشعوب والأمم التي تعيش حالة من الصراع الوجودي، وغالباً ما تلجأ إلى التمسّك بثوابتها الهويّاتية أكثر، حين تعجز عن الدخول إلى عالم المعاصرة والحداثة، وبذلك يتحوّل عجزها عن النهوض والتقدم إلى حالة من الانغلاق والتحفّظ حيال الآخر. بينما نجد النمط الثاني متجدّداً منفتحاً، قابلاً لاستيعاب معطيات تاريخية جديدة تفرضها الحياة، وقدرة هذا النمط من الهويات على التفاعل مع التحولات التاريخية يجعله متجدداً باستمرار، وهو ما نجده لدى معظم المجتمعات الحديثة والدول الناهضة.

ما تنبغي الإشارة إليه هو أن الهوية المتجدّدة لا تلغي المعطيات التاريخية الثابتة، ولكنها في الوقت ذاته ليست أسيرة لها، ذلك أنه بإمكان السوريين جميعاً، بكل أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم، ألّا يتنصّلوا من انتماءاتهم بكل أصنافها، دون أن يكون ذلك عامل شقاق وتناحر، وذلك من خلال إيجاد مشتركات أخرى عديدة، هي أكثر ملامسة لحياتهم ومستقبلهم ، لعل تطلّعات السوريين تحيل إلى رغبة الجميع في العيش في دولة القانون والمساواة والمواطنة واحترام الحريات بكل أشكالها، والتداول السلمي للسلطة، والحرص على تأمين مستلزمات الحياة الكريمة، وحق الجميع في الحصول على فرص العمل المتكافئة وحق التعليم، والاستفادة العادلة من ثروات البلاد …..إلخ، لعل هذه الإحتياجات الحياتية، والتي تجسّد مصالح مشتركة بين الجميع دون استثناء، هي ما يمهّد السبيل أمام السوريين لبلورة تطلعاتهم وتصوراتهم لمستقبل حياتهم المشتركة، ومن ثم الوصول إلى عقد إجتماعي يكون النواة الصلبة لهويتهم الوطنية.

المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها

%d مدونون معجبون بهذه: