د. غسان دندل

عضو المجلس التأسيسي في حزب بناة سوريا

رواندا الجديدة…..تجربة تستدعي الاهتمام

دول كثيرة هي التي عانت من الحروب لنيل حريتها من الاستبداد, ودول كثيرة تلك التي عانت من النزاعات الداخلية, لكن في النهاية استطاعت الوصول الى مبتغاها أحيانا بشكل كامل وأحيانا بشكل جزئي وهي في طريقها للتحول الكامل نحو الديمقراطية, ولعله من الجدير المرور على تلك التجارب من خلال سلسلة من المقالات يتم نشرها بشكل متتابع لاستخلاص النتائج والعبر, وكما قال أحد الحكماء : ( السعيد من اتعظ بغيره….اما الشقي فمن اتعظ بنفسه).

وفي هذا الإطار نبدأ بالتجربة الرواندية التي اعتبرت من أنجح التجارب الحديثة في التحول الديمقراطي بعد النزاع .

 تقع جمهورية رواندا في الوادي المتصدع الكبير وتعد من اصغر البلدان في البر الافريقي وعاصمتها كيغالي, تحدها اوغندا وتنزانيا وبوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية.

شهدت رواندا حروب ونزاعات أهلية بين شعبي التوتسي والهوتو التي تعد من الأكثرية في رواندا, ارتكب خلالها مجازر كبيرة وكان للاستعمار الدور الأكبر في هذه النزاعات, تبعت هذه الأحداث حركة لجوء كبيرة الى الدول المجاورة, وفي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي استطاعت قوى من الداخل الرواندي تأسيس حركة سياسية – عسكرية أطلق عليها اسم الجبهة الوطنية الرواندية, وكان أعضاء هذه الحركة من اقلية التوتسي, وبدأت الحركة العمل من اوغندا حيث أطلقت عدة اهداف لها وتعهدت بإعادة الروانديين من دول اللجوء وتشكيل حكومة جديدة, وكانت الحركة تعتمد على أسلوب حرب العصابات, واستمرت الحركة بالعمل حتى عام 1992 حيث تم الاتفاق على وقف اطلاق نار وتم توقيع اتفاقية أورشا والبدء بمفاوضات سلام, إلا أنه ما لبث أن عاد فتيل الفتنة للاشتعال بعد اسقاط طائرة رئيس الحكومة ((هابياريمانا )) واستيلاء لجنة الأزمات على السلطة بقيادة (تيونسيت باجوسورا) وكان هو المنسق والمسؤول عن ارتكاب المجازر بحق أقلية التوتسي, وفي الطرف الاخر بدأت الجبهة الوطنية الرواندية بالرد بقوة على هذه الاعتداءات ودخلت البلاد بنزاع مسلح داخلي كانت نتيجته مقتل مليون إنسان رواندي خلال 100 يوم تقريبا.

تابعت الجبهة الوطنية الرواندية الهجوم بزعامة بول كاغامي وتمكنت من السيطرة على العاصمة كيغالي بمساعدة الجيش الاوغندي وطرد المتطرفين والحكومة المؤيدة لعمليات التطهير العرقي.

وبعد انتهاء الحرب الاهلية كان لا بد من وضع خطة شاملة للنهوض بالبلاد وتم وضع هذه الخطة بالاعتماد على اربع عناصر مهمة لإعادة السلم الأهلي بعد النزاع وكان اول هذه العناصر توفير الامن والأمان والاستقرار للبلاد وتهيئة الظروف المناسبة لإعادة اللاجئين الى موطنهم, أما العنصر الثاني فكان إعادة هيكلة قوى الامن والشرطة بعد عملية نزع السلاح  وإعادة تأهيل عناصرها لخدمة الوطن والسلم الأهلي, ومن ثم العمل على الاقتصاد كعنصر ثالث لتحقيق النمو الاقتصادي والحد من الفقر الذي يعتبر من أسباب الحرب, والعنصر الرابع كان من خلال التركيز على بناء الدولة الديمقراطية و استعادة عمل المؤسسات, والبدء بالخطوات العملية على طريق التحول الديمقراطي .

وكانت من بين الأمور التي ساهمت بالتقدم السريع للخطة هي إيلاء الحكومة أهمية كبيرة للتعليم فخصصت له ميزانية كبيرة للإسراع في عملية تطور المجتمع, وقامت بدعم صندوق الصحة والمشاريع الصغيرة, وأنشأت محاكم المجتمع المحلي لتطبيق العدالة مما ساهم بدعم الروح الوطنية والتخلي عن الهويات العرقية كما دعمت العديد من البرامج والمبادرات التي ساعدت في تعزيز اللحمة الوطنية للشعب الرواندي.

كما كان للمشروع الذي اطلقه الرئيس الرواندي كاغامي واختار له اسم رؤية 2020 أهمية كبيرة, و بنيت رؤيته على ثلاث أهداف رئيسية تنفذ على عدة مراحل في المدى القريب والمتوسط وبعيد المدى, الهدف الأول القريب المدى يرتكز على تكوين الثروات وتقليل الديون الدولية, والهدف الثاني المتوسط المدى فيعتمد على التحول من الاقتصاد الزراعي الى اقتصاد قائم على المعرفة من خلال تطوير التعليم والتكنولوجيا والاتصالات, في حين يرتكز الهدف الثالث البعيد المدى على خلق طبقة وسطى منتجة وتعزيز روح المبادرة والابتكار.

أضحت العاصمة كيغالي اليوم المدينة الأكثر جاذبية في افريقيا , رواندا اليوم تعتبر من الاقتصادات الأسرع نموا في العالم بمتوسط سنوي يعادل 8%, كما انخفض معدل الفقر الى 45% بعد ان كان 75% خلال سبع سنوات, وتصنف نسبة التعليم الالزامي في روندا كأعلى نسبة في المرحلة الابتدائية في افريقيا, روندا اطلقت اول قمر صناعي لها في العام 2019 لتأمين الانترنت لطلاب المناطق النائية, روندا اليوم من بين الدول الأقل فسادا في العالم.

قامت رواندا بتقديم نموذج رائع عن إمكانية النهوض من جديد بعد حرب أهلية ونزاعات عرقية ومشاهد إبادة جماعية سجلها التاريخ من بين افظع جرائم العصر الحديث, فقد فهم الروانديين ان مسار التفرقة يعني مزيدا من الدماء فاختاروا مسار الوحدة والتنمية والمعرفة, هذه التجربة تبث فينا روح التفاني في العمل والإصرار, فدائما هناك أمل…ودائما هناك ضوء يلوح آخر النفق, فتحقيق النهضة ليس أمرا مستحيلا بل يحتاج لإرادة جماعية وقيادة وطنية راشدة.

المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها.

%d مدونون معجبون بهذه: