
حسن النيفي
باحث وكاتب سوري
داعش ولعبة الخفاء والتجلّي
لقد انتظرت قوات سورية الديمقراطية بتلهّف شديد يوم ( 23 آذار 2019 ) لتعلن فيه ( القضاء التام على ما يسمى ( دولة الخلافة الإسلامية)، إذ إن هذا الإعلان يعني النصر على تنظيم داعش، ما يعني بالنسبة إلى قسد تحقيق أمرين اثنين: يتمثل الأول بتحقيق مُنجز ميداني على الأرض، من شأنه أن يمنح حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd ) نوعاً من الشرعية بالتموضع، بل السيطرة على المناطق التي طُرد منها تنظيم داعش. ويتمثل الأمر الثاني بتعزيز مصداقية قسد لدى الإدارة الأمريكية، والتطلع إلى أن يكون هذا المنجز الميداني بداية لعلاقة جديدة مع واشنطن، بدأت بتنسيق عسكري، ولكن ثمة طموح لدى قسد أن تتحول لاحقاً إلى تفاهمات سياسية بعيدة المدى.
من جهته لم يكن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأقل لهفةً من قسد للإعلان عن الانتصار على داعش، وهو بهذا يكون قد حقق منجزاً يمكن استثماره على مستوى الرأي العام الأمريكي أولاً، ثم يمكن استثماره أيضاً أمام شركائه في التحالف الذي تشكّل عام 2014 وساهمت في عضويته أربع وثمانون دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتنسيق مع قوات سورية الديمقراطية التي ستكون هي الجهة المنفّذة على الأرض، وقد استطاع الرئيس ترامب أن يعزّز منجزه بقيام الطائرات الأمريكية ليلة 26 – 27 تشرين أول 2019 باستهداف زعيم تنظيم داعش ( أبو بكر البغدادي) في محافظة ادلب، ما أدّى إلى مقتله، ما جعل الرئيس ترامب يجرؤ على القول وبالفم الملآن : لقد تمكنتُ من القضاء على تنظيم داعش، وقد أتيتكم برأس زعيمه أيضاً.
ولئن كان من الصحيح أن معركة الباغوز كانت الفصل الأخير من فصول المواجهة العسكرية بين قسد وداعش، وقد انتهت بهزيمة داعش، وربما من الصحيح أيضاً أن تلك الهزيمة العسكرية قد أتاحت لقسد تحويلها إلى منجز سياسي تتفاخر به، ولكن ما هو صحيح أيضاً أن تنظيم داعش قد خسر معركة الباغوز ولكن قسماً كبيراً من فلوله لم تغادر المنطقة، كما هو الحال في العديد من المناطق التي طُرد منها عسكرياً، ولكنه استطاع أن يُبقي في تلك المناطق على خلايا عديدة لم تعدم القدرة على الاختباء أو التخفي، ومن ثم الظهور في الأوقات التي تراها مناسبة، بل إن تلك الخلايا كان لها ظهور علني في العديد من مناطق الحسكة ودير الزور، حيث تقوم بفرض الإتاوات على المواطنين وأخذ الزكاة واعتراض مهرّبي المحروقات، بل وربما إبرام تفاهمات أو شراكات مع العديد من التجار وسماسرة بيع النفط من الوسطاء بين سلطة قسد ونظام الأسد على وجه الخصوص، فضلاً عن قيام خلايا داعش بأنشطة مستمرة تتمثل بنصب الكمائن للقوافل التجارية أو الدوريات العسكرية سواء في الضفة الشرقية لنهر الفرات، أو في البادية السورية أو في شمال ادلب.
على مدى ثلاث سنوات ( 2019 – 2022 ) ظل الحديث عن الخشية من عودة تنظيم داعش إلى الظهور لا يغادر الرغبة بالاستثمار السياسي لهده المسألة لدى الأطراف الدولية، فسلطات قسد – على سبيل المثال – لا تشاء التحذير من عودة داعش إلّا حينما ترتفع نبرة الخطاب الأمريكي بخصوص سحب قواتها من سورية، ولعل واشنطن ذاتها لا تتردّد بالتحذير من خطر عودة داعش حين تريد الإيحاء لحلفائها بأنها هي من يدرأ عنها خطر الإرهاب العالمي الذي يهدد الأوربيين في عقر دارهم، ومن جهته، لا يتوانى نظام الأسد عن لفت أنظار المجتمع الدولي إلى مواجهات تقع في أوقات متقاربة بين قواته وخلايا تنظيم داعش، في مسعى نحو تعزيز القناعة لدى المجتمع الدولي بأن حربه في سورية هي في مواجهة الإرهاب وليس أحدا آخر. ولكنّ يوم الحادي والعشرين من كانون الثاني الجاري كان حاسماً في تحييد الكثير من التردّد والمواقف الظنّية لدى الأطراف المعنية بمحاربة داعش، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وشريكتها قسد، وأعني بذلك العملية النوعية التي نفّذها تنظيم داعش بالتسلل إلى سجن غويران في محافظة الحسكة، حيث تمكن من اقتحام السجن وإخلاء ( 800 ) عنصر من أعضائه، إضافة إلى أسر و قتل العشرات من قوات قسد ممن كانوا حراساً أو موظفين بمن فيهم مدير السجن، فضلاً عن سيطرتهم على أقسام من السجن، وكذلك بعض الأحياء المحيطة به، ولئن كانت هذه العملية المباغتة قد أثارت العديد من التساؤلات، حول توقيتها وأهدافها ، وهل كانت بدافع ذاتي من التنظيم أم ثمة جهات أخرى كانت مستفيدة منها؟ إلّا أن الأجوبة على تلك التساؤلات مهما قاربت الحقيقة أو ابتعدت عنها، فإن ما يمكن تأكيده هو أن قدرة داعش على البقاء والتحرك، وبالتالي على أن تعيد لفت أنظار العالم إلى الخطر الذي تحمله في عودتها، لا يمكن فصله عن الاستراتيجية العسكرية التي تبناها التحالف الدولي وشريكته قسد في محاربة داعش، إذ لقد كان من أبرز التوافقات التي أجمعت عليها أطراف التحالف الدولي هي القضاء على البنى التحتية لتنظيم داعش، وتدمير مقراته وثكناته وكافة الوسائل الحربية وغير الحربية التي يستخدمها، واستئصال عناصره أينما وُجدوا، وبالفعل فقد أبدع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتنسيق مع قوات سورية الديمقراطية، في تنفيذ الجزء الأول مما توافقوا عليه ( تدمير البنى التحتية للتنظيم)، ولكن السؤال الذي لم يغب عن الأذهان منذ أن بدأت المواجهات حول ما إذا كان تنظيم داعش يملك بنى تحتية في سورية، فهل المدن والبلدات السورية التي استولى عليها داعش هي بنى تحتية تعود له بالأصل، أم أنها بنى تحتية تعود ملكيتها للمواطنين السوريين أو الدولة السورية، لقد دمّر التحالف الدولي مدينة الرقة دماراً شبه كامل، وإن الأعداد التي غادرت الرقة من أعضاء التنظيم لا تتجاوز بضعة آلاف، لم يُقتل منهم إلا الأعداد القليلة، وما تبقى في الرقة بعد خروج داعش هو الخراب الذي ما يزال قائماً، إضافة إلى المقابر الجماعية التي ما تزال تظهر تباعاً. بل ربما يصح القول: إن سعي التحالف الدولي نحو القضاء على داعش كان محصوراً بحيازة الأرض وبسط السلطة عليها دون الاهتمام باستئصال البنية البشرية للتنظيم، سعياً نحو الكسب السياسي للمعركة بعيداً عن الاستئصال الفعلي لعناصر داعش، ولهذا بات الكثير يتساءلون عن مصير الآلاف من الدواعش الذي خرجوا من البلدات والمدن، إلى أين ذهبوا؟ وما مدى احتمال عودتهم إلى الظهور والنشاط بسهولة؟
ما أوضحته عملية سجن غويران أن داعش ما يزال موجوداً، سواء بفعل عوامل ذاتية تتعلق بضعف الجانب الاستخباراتي لقسد أو التحالف، أو بفعل أطراف خارجية أخرى، ولكن الذي لم يتوضح بعد، هو أن سبل مقاومة هذا التنظيم ومشتقاته هل ستبقى مرهونة بالاستثمار السياسي لمفهوم محاربة للإرهاب في سورية من خلال استهداف مظاهره فقط وترك جذوره وبواعثه الحقيقة، أم اننا سنشهد استراتيجية جديدة لا تتعامى عن المصادر التي تتيح لداعش وسواه استمرارية البقاء؟.
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها