
الأستاذ ماهر حوسة
ناشط اعلامي
ضوء على الأزمة السورية كإشكالية
نحن ننظر إلى المسألة السورية ونحاول معالجتها من نهاياتها.
بينما المفروض هو النظر لأسّ المشكلة، والانطلاق منه إلى الحلّ.
طبعاً، تتعدد زوايا النظر للمسألة السوريّة، ولا يمكن حصرها بزاوية معينة.
ولكن يمكن القول أن تأزم القضية السورية وما آلت إليه، بعيداً عن التدخُّلات الخارجية، وفي الجانب المتعلق بنا يمكن أن يُردّ إلى سببين بشكل عام:
الأوّل مباشر، والثاني لازم عن الأوّل ومتضمن فيه.
السبب المباشر يعود إلى سنوات الاستبداد التي عاشها السوريّون بمجيئ نظام الأسد إلى سوريا، وحكمه لها بسياسة خبيثة عمّقت الشرخ بين مكونات المجتمع، بل قضت على تطور المجتمع ذاته ومنعته من الانتقال إلى طور المجتمع المدني الحديث.
أما السبب الثاني والغير المباشر؛ فيَكمُن في المجتمع نفسِه.
طبعا هذا لا يعني إلقاء اللوم على السوريين، بقدر ما هو توصيف لحالٍ فُرِض عليهم ووجدوا أنفسهم مرغمين عليه نتيجة تسلط وخبث نظام الأسد.
فقد رَزَحَ المجتمع السوري بكلّ أطيافه وطبقاته تحت وطأة سياسات حافظ الأسد، والتي رسّخت الخوف والحذر داخل كل فرد سوري اتجاه الأفراد الآخرين، حتى بين الفرد وأبيه أو أخيه.
كما رسّخت عُقَد عديدة كعقدة الخلاص الفردي للوصول إلى أبسط حقوق الحياة. وعقدة الأنا المتضخمة نتيجة القهر، وصولاً إلى عقدة رأس الهرم والخصاء الفكري؛ حيث القول ما يقوله المفكّر الأول، والعمل ما يأمر به القائد الأول والأوحد، كل ذلك من خلال خلايا النظام الخبيثة التابعة له.
لقد تمّ تأطير المجتمع السوري بشكل مُمَنهج وفق سياسات تقسيمية، تعتمد على اللا مبدأ للوصول لموقع أفضل اجتماعياً، واللا أخلاق لتحصيل حياة مرفهة نسبياً.
وبالنظر تشخيصياً إلى بنية المجتمع السوري نرى أن هناك خللا بنيويّاً مزمناً، هذا الخلل تَمَظهَر بأمراض خطيرة ومزمنة أصابت المجتمع بكل فئاته بمن فيهم النخب.
وعلينا الاعتراف بوجود هذه الأمراض الطاغية والمستعصية والمستترة بآن، في داخل كل سوري ومنشأها هو الاستبداد، ولكن الاعتراف يتطلب شجاعة بالطبع.
فنحن كسوريين لا نتقن الحوار الداخلي مع أنفسنا … فكيف بالحوار البيني المجتمعي.
فحواراتنا حتى الآن غالبا ما تنتهي بالصراخ، والضرب على الطاولة، وصفق الباب ورائنا (حتى في العالم الإفتراضي كالواتس أب يصح هذا التشبيه).
ولذلك محاولات تجميع السوريين تفشل. ومحاولات عقد مؤتمر وطني على سبيل المثال، هي فاشلة وليست واقعية، بسبب غياب الحوار الوطني، وعدم تشكل المجتمع المدني السوري بعد، وعدم وجود هوية وطنية جامعة بسبب وجود الهويات الإثنية والدينية، وعبقٌ لا زال زاخماً من الأيديولوجيات الضيقة عند البعض، إضافة إلى فوضى المصطلحات.
وهذا ما يجعل كل سوري يلوذ بِرُكنِه الإثني أو الديني الضيّق خوفاّ من وطنٍ، لم يكن سابقاً ولم يتحقّق حتى الآن، ولا زال مجهولاً بالنسبة إليه.
نعم، بدأنا ثورة على الظلم والاستبداد، وطالبنا بالحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية، ولكن للأسف لم نتخلص من أمراضنا الذاتية، ومجتمعنا لم يفعل ذلك بعد.
وربما من غير المستغرب، بناء على ما سبق، أن نرى ما وصلنا إليه من تشرذم وضياع، وتسلط للأمّعات الانتهازيين على مفاصل قرار الثورة السورية. وفشل ذريع للمسار السياسي الذي انتهجته ما تسمى بال”معارضة”.
إن القول بوجوب رفع مستوى الوعي في المجتمع السوري، هو تنظير واقعي للخلل، ولكن يجدر بنا السؤال عمّن هو الذي يجب رفع مستوى الوعي لديه؟
هل هم النخب أوّلاً، أم المجتمع؟
طبعا النخب أوّلاً، لأن المجتمع يتأثر بنخبه، فإن صَلُحَت النخب، سار المجتمع باتجاه صلاحِهِ.
للحق وللأسف، فإن النخب السورية ليست بأفضل حالاً من باقي شرائح المجتمع، لذلك هي بحاجة لتعي ذاتها وأمراضها الموروثة مجتمعياً.
وتنقسم نخبنا السورية إلى قسمين:
القسم الأول هم مناضلين (لا نبخَسَهم حقّهم ) ولكنهم ما زالوا يفكرون بعقلية وأسلوب القرن الماضي، حيث سحقهم نظام الأسد وأوردهم السجون، فتقوقعوا في القديم وانغلقوا عليه ولم يحاولوا بخبرتهم وتجربتهم السياسية، مدّ يد العون للجيل الأحدث الذي قام بالثورة، والذي يفتقد إلى التجربة والخبرة السياسية، ولا يمتلك مخزون فكري كافي للإلمام بكلّ زوايا وخبايا السياسة.
ومن المعلوم أن السياسة في ظل نظام الأسد كانت كالكُفرِ البَوَاح، وتابُو من أشدّ التابوهات المحظورة على الفرد السوري.
لذلك نحن كسوريين لم نمارس السياسة ولا نتقنها، كما لم نتقن أمور كثيرة كانت محظورة علينا. لأننا ببساطة كنّا رعايا في مزرعة الأسد، ولم نكن مواطنين في وطن اسمه سوريا.
أمّا القسم الثاني فهم نخب حديثة ولكن بلا تجربة بالغالب، خرجت فورا إلى فضاء الحرية بدون ضوابط أو التزام بنسق فكري ينطلق من خصوصية مجتمعنا وظروفنا التي، نحن نِتَاجها، ولم نكن نحن من أنتجها.
تلك النخب الحديثة تشعر بالضياع نتيجة تغريب عقولهم وعدم قدرتهم على رؤية مشكلات مجتمعهم الأساسية؛ فهؤلاء يبحثون في نتائج لم ينظروا إلى مقدماتها مطلقا، كما يحاولون إسقاط أي تجربة غربية على مجتمعنا المتأخر والمنقسم، دون النظر إلى الظروف الموضوعية والذاتية لهذا المجتمع.
قد يقول قائل؛ بفرض أن الكلام أعلاه صحيح، وأنه يلقي الضوء على أسّ الأزمة في القضية السورية، فما الحل إذا؟
طبعا هذا هو السؤال الكبير، ولا أحد يستطيع الإدعاء أنه يملك الجواب.
إنما يمكن التفكير بالاتجاه الصحيح، فمن المؤسف أنّنا بعد أحد عشر عاماً على بدء الثورة، أن لا نصل حتى لمقاربة للحلّ.
بداية، إن لم يحصل توائم وتعاضد بين الجيل القديم المتمثل بالجيل المناضل والذي يمتلك الخبرة، مع الجيل الجديد بحماسه واندفاعه، لإنتاج آلية عمل واحدة تحمل خبرة الكبار ونشاط الشباب وقدرته الأكبر على العمل وفق منظومة العالم الحديث وبتقنياته الحديثة، فلن نكون مُنتِجين.
على كبارنا الوقوف مع الذات لبرهة، ونفض ترسبات الماضي بما يسمح لهم بالتنازل قليلاً، لوضع خبرتهم فقط وليس شخصياتهم، تحت تصرف الشباب الذي سيكون له المآل وهو الذي سيقود المجتمع مستقبلاً.
وعلى شبابنا من الجيل الجديد إدراك أن لمجتمعنا خصوصيته التي لا تتقبل أي تجربة كما هي بذاتها، إنما يمكن الإستفادة من خطوطها العريضة وأخذ ما يناسبنا انطلاقاً من ظروفنا الموضوعية. مع التأكيد على التزامنا بالمثل العليا وحقوق الإنسان المتفق عليها عالميا.
وعلى كلا الجيلَيْن الانخراط بالعمل المجتمعي على أساس ديمقراطي، لأنّ ما أصابنا هو نتيجة لغياب الديمقراطية في العمل الجماعي.
من ناحية أخرى، وربما، فإن النظر إلى القضية السورية من منطلق الأولويات، يضعنا على بداية الطريق.
قد يُلَاحَظ وجود نَسَقيْن متوازيين للحلّ في القضية السورية.
النسق الأول، وله الأولوية بطبيعة الحال، وهو حاجة سوريا الماسّة للوصول إلى حلّ ينهي أزمة البلد ويحقّق الاستقرار والأمن، وهذا يقتضي الوصول إلى مسار يفضي إلى تغيير النظام واستعادة الدولة، لتحقيق الاستقرار والأمن للشعب الذي هُجِّر نصفه وقُتِل واعْتُقِل ملايين منه.
بالضرورة، هذا المسار المطلوب ليس على شاكلة آستانة واللجنة الدستورية ومؤسساتهما الفاشلة بجدارة، لأنها لم تخرج بشخوصها من ورم الذّات والنفعية والعطب وكل أمراض المجتمع.
هذا النسق يستلزم توجّه وتحرّك سريع من قِبَل جهة وطنية سورية قادرة على فرض الأمن والاستقرار المطلوب وتمتلك مؤهّلات فِعل ذلك كمؤسسة، لتحقّق النسق الثاني والذي يحتاج لزمن ليس بالقليل لإصلاح المجتمع ونفوس أبنائه.
وهذا النسق الثاني، والذي لا يقل أهمية عن الأول، مهمته إصلاح بنية المجتمع بالتوعية والتثقيف والممارسة للديمقراطية والعمل الجماعي، وصولاً به إلى حالة المجتمع المتماسك، والذي يمتلك هوية وطنية تتغلب على الهويات الثانوية وتضعها تحت جناحها الكبير وتستوعبها (ليس المطلوب إلغائها بل استيعابها).
النسق الثاني هو يحتاج ربّما لعمل عدّة أجيال، ولذلك فإن الأولوية القُصوى، قد تكون في فرض حالة من الأمن والاستقرار في المقام الأوّل. لتتفرغ النخب، التي تخلصت من عُقَدِها، لبناء المجتمع.
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها.