حسن النيفي

باحث وكاتب سوري

هل يحتاج السوريون إلى نشيد وطني جديد؟

ربما لا تستقيم الإجابة على السؤال أعلاه دون التطرق إلى طبيعة العلاقة الوطيدة بين الإنسان والفن على العموم، وما الذي يجعل الكائن البشري على مرّ العصور شديد النزوع نحو تجاوز ما هو نفعي أو مادي والعبور نحو ما هو قيمي؟ إذ لعله من الميسور جداً أن نجد أمة من الأمم، أو شعباً من الشعوب، يفتقر إلى صنف أو أصناف من العلوم أو الصناعات أو المهن، ولكن لا نجد على الإطلاق شعباً أو أمة بلا فن، وبالتالي هل حيازة الفن هي القرينة الأبلغ للدلالة على تميّز الإنسان أي سموّه عما سواه من المخلوقات؟ يمكن التأكيد ببساطة على أننا أمام ظاهرة متأصلة لدى الجماعات البشرية، تتجسّد في سعيها الدائم إلى تحويل مقوّماتها الوجودية المادية التي تعتدّ بها إلى قيمة رمزية، بهدف تحصين تلك القيم من الزوال والاندثار، ولكي تبقى حافزاً على البقاء والاستمرار في امتلاك أسباب القوة، ولعل المجال الأمثل لتجسيد رمزية تلك القيم هو الفن، بل هو الشعر على وجه الخصوص، باعتباره من الأجناس الأدبية ذات التأثير المباشر، وذلك بفعل عضوية التلاحم والاندغام بين اللغة والموسيقى، ولعل هذا ما يفسّر لنا كيف كُتبتْ بعض الأديان والعقائد كتابة شعرية كما لدى اليونان مثلاً. ومع تجذّر هذه الظاهرة عبر التاريخ، باتت النصوص الشعرية – على اختلاف أشكالها وأنماطها الفنية – بمثابة (هُوية قيمية) للجماعات، سواء كانت هذه الجماعات قبيلة أو دينية أو قومية . ما هو مؤكّد أن السياق الذي نحن فيه وما يجيزه حيّز هذه المقالة لا يتيح لنا الاستغراق في تلك المسائل التي تنتمي إلى فلسفة الفن أكثر من كونها مقاربةً محدودة الحجم لموضوع معيّن كالنشيد الوطني على سبيل المثال. وعلى أيّة حال، فإن تبلور مفهوم الدولة الوطنية في العصر الحديث لم يلغ الحاجة إلى التجسيد الرمزي لهوية الشعوب والأمم، أعني بقاء النص الشعري (الهُوياتي) للجماعة، بل ظل محتفظاً بكونه اختزالاً أو تجسيداً فنياً للتحولات التاريخية و السياسية والاجتماعية، فضلاً عن كونه تعبيراً عن الوجدان الجمعي للشعوب.

في العودة إلى النشيد الوطني السوري بصيغته الراهنة، والذي أُنتِج – شعرياً وموسيقياً في العام 1938 م – وفي ضوء ما تقدم من أفكار – نجد أنه يستمدّ مضمونه من كل ما تنطوي عليه تلك المرحلة من سمات، لعل أبرزها:

1 – انشغال السوريين بمعركة التحرر الوطني من الاستعمار الخارجي ، وتصدُّر الحاجة إلى القوة العسكرية باعتبارها الشرط الحامل للمقاومة، ولعل هذا ما جعل استهلال النشيد يتوجه إلى حاملي السلاح أو عنصر المقاومة (حماة الديار).

2 – استلهام الإيديولوجية القومية أو فكرة العروبة، باعتبارها إطاراً أو مظلة جامعة لتوحيد الصف الوطني من جهة، ولرفد النفوس بطاقة عقدية وعاطفية ربما بدت ضرورية في أية معركة من جهة أخرى، (عرين العروبة بيت حرام).

3 – استحضار صور مشرقة من التاريخ، كعوامل تسهم في تعزيز ثقة الشعب بنفسه وقدرته على تجاوز الحاضر المرير، فضلاً عن أن استحضار المحطّات الزاهية من التاريخ يبعث شعوراً قوياً لدى الأفراد أو الجماعات بأحقية استرداد المجد السالف، وهذا لن يتحقق إلّا بتحرير البلاد من سطوة الأجنبي (نفوس أباة وماض مجيد – وروح الأضاحي رقيب عتيد – فمنا الوليد ومنا الرشيد – فلم لا نسود ولم لا نُشيد).

  غني عن التكرار، أن ثورات الربيع العربي جاءت استجابة لتحولات تاريخية وإجتماعية لمجمل شعوب منطقة الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص في البلدان التي ما تزال تحكمها السطوة العسكرية وفق منهج الاستبداد والتسلّط، بعيداً عن استلهام قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ومبدأ التداول السلمي للسلطة، وهكذا بعد مرور عقود على مرحلة الاستقلال الوطني، وجدت تلك الشعوب نفسها أمام تحديات جديدة لم تعد تتمثّل بالمحتل الأجنبي، بقدر ما تتجسّد بأنظمة الحكم الإستبدادية التي وصلت درجة التسلّط لدى بعضها إلى مرحلة التوحّش كما هو الحال لدى نظام الحكم في سورية. ولئن كان المستعمر الأجنبي ما يزال يحتفظ بصورته المقيتة نتيجة إرثه الاستعماري في قطاعات واسعة من الذاكرة الشعبية لدى الكثيرين، إلّا أن ممارسات الأنظمة الحاكمة بحق الشعوب عبر عقود من الزمن قد جسّدت صورة لعلها أكثر مقتاً وشناعة من الصورة التي وقّرها المستعمر الأجنبي، ليس في ذاكرة الشعوب فحسب، بل في راهنها المعاش أيضاً، فضلاً عن أن تلك الأنظمة الحاكمة، وحرصاً منها على استمرار تسلّطها واستمرارها في الحكم، انتهت إلى في نهاية المطاف إلى تحالف وثيق مع معظم الدول ذات النفوذ الاستعماري السابق، بل ربما بات بقاء أكثرها مرهوناً بإرادات ومرجعيات الدول الاستعمارية السابقة.

مما لا شكّ فيه أن التطور التاريخي لمفهوم الدولة قد بلور معاني جديدة أصبحت من المقوّمات الأساسية والضرورية لقيام أي دولة تنتمي إلى عالم الحداثة، وأعني بتلك المقومات مجمل مفاهيم المواطنة و حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون وووإلخ، بل يمكن الذهاب إلى أن تبلور تلك القيم أو المقوّمات في الدولة الحديثة قد جسّدت حافزاً كبيراً لدى الكثير من الأمم والشعوب والجماعات نحو تجاوز مفهوم (الهُوّيات الثابتة أو المغلقة) التي تكوّنت أو تشكّلت نتيجة لمعطيات تاريخية أو عرقية أو دينية، وبدأت تتجه نحو بناء (هويّة وطنية منفتحة) تستمد مضامينها من جملة المصالح المشتركة بين المواطنين، أو من العقد الاجتماعي الذي يعبر عن مصالحهم وتطلعاتهم المشتركة، والمنبثق من سياق حياتهم المعيشية ومساواتهم في الحقوق والواجبات كما يحدّده مفهوم المواطنة، بعيداً عن العرق والدين والمذهب. ولعل هذا النزوع نحو استلهام قيم الدولة الحديثة لم يكن مفارقاً للمحتوى القيمي لثورة السوريين التي استمدّت مشروعيتها من مبدأ رفضها للاستبداد والشمولية ومطالبتها بالحرية والعدالة والديمقراطية وسيادة القانون.

مما لا شك فيه أن النشيد الوطني السوري ما يزال يحتفظ بقدر ما، من هالة وجدانية ونفسية لدى قسم كبير من السوريين، إلّا أن هذا الأثر العالق في الوجدان الشعبي، وتلك النشوة التي تبعثها الذاكرة في النفوس حيال سماع النشيط الوطني، إنما تكتسي قيمتها من بعدها التاريخي، أي هي ذات قيمة تاريخية تستمد حضورها من قدرتها على إيقاظ (النوستالجيا ) لدى السوريين أكثر من قدرتها على ملامسة همومهم وأحاسيسهم وتطلعاتهم الراهنة، ذلك أن المضمون القيمي للنشيد الوطني بصيغته القديمة لم يعد يجسّد تلك التحديات التي تواجه المواطنين السوريين في الوقت الراهن، ولم يعد مُستلهماً من شعور جمعي ينبثق من الشعور الشديد بالحاجة للحرية والكرامة كما يجسدهما المعنى الجديد لمفهوم (المواطنة)، كما لم يعد مستلهماً من رغبة المواطنين بالعيش في ظل دولة تسعى لتأمين العيش الكريم لمواطنيها وتحفظ حقوقهم وتهدف إلى تحقيق المزيد من رفاهيتهم ولا تكون مصدر خوف ورعب يهدد حاضرهم ومستقبلهم. بل يمكن الذهاب إلى أن العديد من العبارات والجمل التي يحملها النشيد بصيغته الحالية باتت مصدر استفزاز ومبعث شعور مقيت، وذلك بحكم الدلالات الجديدة التي اكتستها في ظل حكم الاستبداد الأسدي، كعبارة (حماة الديار) على سبيل المثال لا الحصر، التي أُفرِغتْ من دلالتها السابقة واكتست معنى يشير إلى جيش النظام الذي تحوّل إلى أداة لقتل المواطنين والتنكيل بهم، بدلاً من أن يكون المدافع عن حيواتهم ومصالحهم.

ما يمكن تأكيده هو أن حاجة السوريين إلى نشيط وطني جديد باتت حاجة، بل ضرورة يمليها واقعهم النضالي وسعيهم نحو تجاوز دولة التوحّش والاستبداد، وبالتالي هم بحاجة إلى (معادل فني – نشيد) يجسّد تلك التطلعات، علماً أن تجاوز النشيد التقليدي الراهن والحكم ببطلان محتواه القيمي أو مجافاته لتطلعات السوريين، لا يعني التنكّر لحقبة زمنية لا يمكن فصلها أو اجتزاؤها من سيرورة نضالهم الوطني من أجل الاستقلال والتحرر من سلطة المستعمر الأجنبي، بقدر ما تعني تعزيز ذلك الرصيد بإبداعات رمزية توازي إبداعاتهم النضالية التي جسدتها الثورة السورية في آذار 2011.

المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها

%d مدونون معجبون بهذه: