أحمد عرابي

أكاديمي سوري

عالم جديد مضطرب..قلقٌ .. مشوشٌ .. مرتبكٌ .. مهتزٌ .. غير مستقرٍ

من المؤلم أن تكون الشعوب ضحية للسياسات, وأن يُسحق آلاف الأبرياء بحجج هزيلة لا تقوى على الصمود أمام الواقع المليء بالحقائق المخالفة لتلك الادعاءات , تعلمنا في عالم السياسة أن الأقوال أكثر من الأفعال, وأن الادعاءات كثيرة وأحياناً بعيدة المنال وتطبيقها على أرض الواقع نادر جداً وكأن غالبية قوانين عالم السياسة تُشجع على التملص من الالتزامات والإبقاء عليها في إطار الإعلام فقط, فنحن في عالم جديد مضطرب وهذا الجيل من أمة العرب يعيش عصراً عالمياً جديداً يعاد تشكيل قواه وحدود دوله ونظامه السياسي والقانوني، كما يعاد فيه النظر في أولويات المصالح والأفكار التي تدور حولها السياسات والمواقف, وفي هذا العالم الذي لا يزال نظامه الجديد يتشكل وتتحدد معالمه تنشأ تجمعات كبرى ليحل التنافس بينها تدريجياً محل الصراعات الأيديولوجية القديمة والنزاعات الإقليمية التقليدية بين الدول الصغيرة والكبيرة على السواء, ومن سوء الحظ  أن عصر التجمعات الدولية هو بعينه عصر النزاعات العربية والتمزق العربي، فلا التوجه القومي أفلح في تجميع العرب، ولا المد الإسلامي نجح حتى الآن في توحيد صفوفهم بل إن الحروب الأهلية دائرة بينهم على قدم وساق تستخدم فيها كل الأسلحة ويلجأ الأطراف المتنازعون فيها إلى أكثر الأساليب بعداً عن روح الحضارة العربية الإسلامية وأشدها تناقضاً مع التوجهات الفكرية والأخلاقية للثقافة العالمية الجديدة، وقد كان من نتائج هذا الاستغراق في عمليات “الاحتراق الداخلي” أن فقد العرب في نظر الكثيرين استحقاقهم للمشاركة على أساس النديّة في بناء النظام العالمي الجديد، بل إن الصور السيئة التي قدمتها الممارسات العربية والحملات الإعلامية النشطة التي حرصت على تشويه صورة العرب والمسلمين في العقل والوجدان العالمي قد صورت للكثيرين أن العرب يمثلون خطراً على الحضارة ويقدمون نموذجاً للفكر والسلوك والتصرف يناقض الأسس التي يراد للنظام العالمي الجديد أن يقوم عليها, وللعرب في هذا الزمان هموم كثيرة بعضها قديم وبعضها جديد ودون مقدمات فإننا نلمح في الأفق نذراً تبعث على القلق ولا تسمح للعقلاء بالتفاؤل, ومع ذلك نرى وسط الغيوم الملبدة  آمالاً تلوح من بعيد، ولكنها جميعاً آمال مرهونة بشروط كثيرة ومعلقة على أداء أعمال كبيرة لا نقطع بأننا مؤهلون لها أو قادرون عليها وفيما نسمع ونرى في أن ينبه أكثر العرب من غفلتهم، أو أن يجذبهم من عالمهم الضيق الذي حبسوا أنفسهم فيه عالم المصالح الضيقة والمكاسب القريبة، عالم الذهول عن الواقع المرير بالأحلام الحلوة السعيدة والاستغناء بالكلمة المنمقة والعبارة المزخرفة عن “الفعل” الذي يغير الواقع ويبدل الحال, والمذهل والمحزن معاً أن العرب كل العرب قد تصايحوا مع بداية الربيع العربي  بأن الحال بعده لن تكون أبداً كما كان قبله، وتصارحوا بأن الأزمة على هولها الكبير وأثرها الخطير  ربما كانت نعمة مطوية في ثنايا نقمة؛  لأنها فجرت قضايا كان ينبغي أن تفجر منذ زمن بعيد، وكشفت أقنعة عديدة طالما اختبأت وراءها شرور وسوءات وعورات، ورغم الكلام الكثير الذي كتب وقيل وتسابق في ساحته المتحدثون والكتاب في الندوات واللقاءات فإن أرض العرب ما كادت تستقر تحت أقدامهم من جديد بعد هزة الزلزال, ما سمي بالربيع العربي حتى عاد كل شيء إلى ما كان عليه وعاد العرب جميعاً إلى مقارفة الأخطاء والخطايا التي سلموا جميعاً بأنها كانت الأسباب الرئيسية التي أدت إلى كارثة البلاد العربية  التي لا تزال تداعياتها المأساوية تتكشف يوماً بعد يوم…. وإن ظن البسطاء أن فصولها قد اكتملت وأن شرورها قد ذهبت ولا يمكن أن تعود, وأن غبار الربيع العربي  قد بدأ ينقشع عن واقع مرير,  جوهره تآكل استقلال العرب وتعرض دول عربية عديدة لصور متنوعة من صور التبعية لدول كبرى وهي تبعية يرجع جانب كبير منها إلى اكتشاف العجز العربي عن حماية الأمن العربي، لا في مواجهة الأخطار الخارجية فحسب وإنما في مواجهة قوى عربية شقيقة تمثل طموحاتها وأساليب عملها أخطاراً بالغة على أمن جاراتها وأمن المنطقة كلها، مما أدى في النهاية إلى استدعاء قوات أجنبية لتؤدي على الأرض العربية  دوراً كان ينبغي أن يضطلع به العرب أنفسهم، ومع بقاء أسباب الأزمة قائمة بغير حلول جذرية  فسوف تستمر الحاجة  حقيقة كانت أو مصطنعة  إلى استمرار الوجود الأجنبي على الأرض العربية وتحوله إلى أداة لفرض التبعية من ناحية، ولتفجير نزاعات وانقسامات داخل الكيان العربي من ناحية أخرى، ولقد ساعد ولا يزال يساعد على تعاظم أخطار التبعية أن خريطة القوى العالمية قد تغيرت وتبدلت معالمها تغيراً جذرياً خلال السنوات العشر الأخيرة وخاصة الحرب الروسية  على أوكرانيا حالياً وجنون الطاغية السفاح بوتين  وانهيار أعمدته الرئيسية  وانشغاله بأزمته الاقتصادية التي وصلت إلى حد الكارثة مما صار يهدده في صميم وحدته ، وإن مستقبل نظامه السياسي والاقتصادي معلقاً على خيوط واهية لا يدري أحد إن كانت قادرة على مداواة جراحه ولم شمله من جديد أو أنها ستنقطع عما قريب فاتحة حقبة جديدة في تاريخه وتاريخ العالم لا يستطيع أحد تصور معالمها أو رصد آثارها إذا نجح في احتلال أوكرانيا وخضوعها بالكامل له كضمه جزيرة القرم ومن قبلها جورجيا ومن قبلها حرب الشيشان وتهديده لحلف الناتو والاتحاد الأوربي, وإن أخطر ما في هذه القضية أن الغزو الروسي لأوكرانيا  قد ظهر بصورة عدوانية  فجة لا يمكن قبولها بحال من الأحوال، ولذلك لم تتعاطف مع هذا العدوان الإرهابي الإجرامي أي من شعوب  العالم سوى المجرم الطاغية بشار الأسد وعصابته المجرمة, فالقضية السورية مرتبطة بقضية العمل العربي المشترك، ومستقبل الهياكل التنظيمية التي يجري من خلالها العمل بها في مستقبل الجامعة العربية، والمؤتمر الإسلامي، والاتحادات الإقليمية وفي مقدمتها مجلس التعاون الخليجي وتجنب العزلة عن مسيرة الأمم والشعوب من حولنا وهي تتقارب وتتعاون من أجل نظام عالمي جديد , لذلك فإن الحصول على مكان للعرب داخل هذا النظام ينبغي أن يكون هدفاً أساسياً من أهداف العمل الوطني لوحدة الوطن العربي والبلاد العربية كلها، ولنتذكر أن النظام العالمي الجديد لم يتشكل على نحو حاسم بعد، وأن نشأته لا تعني انتهاء جميع صور الصراع أو انتهاء التاريخ بالانتصار النهائي لمذهب سياسي واقتصادي واحد، ومعنى هذا أن أمامنا  نحن العرب  فرصاً عديدة للحركة والمناورة وتجاوز الأزمة, علينا أن نبحث عنها وأن نتعامل معها بحكمة وبسرعة، مزودين برؤية موضوعية متجددة لكل ما حولنا والعمل على قضية الديمقراطية في الوطن العربي بشقيها المرتبطين، شق المشاركة الشعبية في العمل الوطني والسياسي وشق احترام حقوق الإنسان وحرياته وقضية العدل الاجتماعي داخل الأقطار العربية وبين الأقطار العربية باعتبارها جميعاً شريكة في مشروع حضاري قومي عربي واحد لا يمكن أن يتحقق داخله  “سلام حقيقي”  إلا في ظلال نظام اجتماعي عادل لاستخدام الثروة ولا أقول بالضرورة لتوزيع الثروة, وإن قضية التحرك على طريق الديمقراطية وتحقيق درجة مقبولة من المشاركة الشعبية ومستوى لائق من احترام حقوق الإنسان وحريته، هذه القضية لا تزال فيما يبدو بعيدة عن اقتناع كثير من الحكومات والقيادات والساسة، وذلك رغم ما أجمع عليه العقلاء من أن المغامرة الخاسرة التي وقعت ما كان لها أن تقع لو أن الحكام يستشيرون, ولو أن أصحاب الرأي يتكلمون، ولو أن الشعوب تشارك مشاركة حقيقية في تقرير مصيرها واتخاذ القرارات الكبرى التي تتحكم في حاضرها ومستقبلها، رغم هذا كله فإن التحرك على طريق المزيد من المشاركة الشعبية لا يكاد يرى له أثر على امتداد العالم العربي، نعم لقد بذلت وعود وأعلنت نوايا  ولكن يقف في طريقها  فيما نرى  أمران، أولهما: أن بعض الأنظمة لا تزال ترى أنه لا علاقة بين ما جرى في ثورات الربيع العربي  وبين قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل يرى بعضها أن التساهل مع المعارضين وفتح النوافذ أمام فصائلهم للتعبير عن رأيها ونقد حكوماتها، قد كان مسؤولاً على نحو ما عن بعض ما جرى, أما الأمر الآخر: فهو أن بعض الأنظمة العربية مع اقتناعها ورغبتها الصادقة في تحقيق مزيد من المشاركة الشعبية فإنها تخشى أن يكون طريق هذه المشاركة طريقاً لا آخر له، وأنه كلما تنازل النظام عن بعض امتيازاته طالبت المعارضة بالمزيد حتى تصل الأمور في النهاية إلى تغييرات جذرية قد يضحى فيها بالأمن والاستقرار، كما قد تفقد بسببها بعض الأنظمة مواقعها التاريخية الثابتة في الحكم, ففي بعض الأقطار العربية الأمر يحتاج إلى تحولات أكثر جذرية، إما بالعدول عن أسلوب النظام الشمولي المهيمن الذي تدور الحياة السياسية كلها في ظله حول حزب واحد أو زعيم واحد يوشك بسبب الإعلام الكاذب والمضلل أن يكون نبياً معصوماً  لا يتصور في حقه الخطأ، فضلاً عن أن يسمح بتوجيه النقد إليه أو إلى قراراته وسياساته، وإما باتخاذ الخطوات الأولى الجادة على طريق الديمقراطية  انتقالاً من الأسلوب العشائري في الحكم إلى أسلوب الاعتماد على مؤسسات حقيقية لها اختصاص معلوم وسلطات محددة والأهم من ذلك قضية العدل الاجتماعي التي لا تزال قضية مهملة على الصعيدين الداخلي والإقليمي مع أنها إحدى القنابل الموقوتة التي تهدد السلام الاجتماعي داخل كل قطر عربي، كما تهدد الأمن العربي من داخل المجموعة العربية  إذا أتيحت لها ظروف معينة, فإن المؤسسات العربية الإقليمية والصناديق العربية المختلفة مطالبة  بإلحاح إعادة النظر في دورها من حيث حجمه وأهدافه وتوجهاته الأساسية بحيث تصبح أدوات ذات وظيفة سياسية واقتصادية تعين على تحقيق السلام الاجتماعي العربي كما تفتح الباب أمام عمل عربي مشترك فعال في المجال الاقتصادي  ويتصل بهذه القضية أمور تفصيلية عديدة لا يحتمل علاجها الإرجاء في مقدمتها ما تتمتع به الجاليات العربية  في الدول العربية المختلفة من حقوق وضمانات، سواء في علاقات العمل أو حقوق التملك، أو حقوق التنقل عبر الحدود العربية، أو في عموم المساواة أمام القانون، ذلك أن إهمال هذه القضايا من شأنه أن يفسد العلاقات بين الشعوب، وأن يكون بمثابة سم بطيء يسمم كل الآبار العربية ويفتح الأبواب واسعة أمام تهديد الأمن العربي من داخله, إن هذا الجيل من أمة العرب يعيش عصراً عالمياً جديداً يعاد تشكيل قواه وحدود دوله ونظامه السياسي والقانوني، كما يعاد فيه النظر في أولويات المصالح والأفكار التي تدور حولها السياسات والمواقف وإذا لم يكن للعرب مكان في النظام الجديد ولا موقع على خريطته فإن المصير الوحيد الذي ينتظرهم لن  يكون إلا مصير التبعية للآخرين، والخضوع الاضطراري لرغبات وقرارات القوى الكبرى صاحبة الكلمة المسموعة في المنظومة الدولية الجديدة، وهذه هي النذر التي نراها اليوم من حولنا  ولسائل بعد ذلك  أن يسأل : أيعني تكاثر هذه الهموم على العرب أن يغلقوا صفحة الأمل، وأن يستسلموا للتشاؤم والقنوط، وأن يجلسوا في حزن ينتظرون الأيام الحسوم والسنوات العجاف، سنوات التراجع والعزلة عن العالم والتبعية للقوى الصاعدة في نظام عالمي جديد…؟؟. والجواب : أن نوافذ الأمل لا تزال مفتوحة، وأن فرص الخروج من المأزق لا تزال متاحة، وأن الأمر في النهاية أمر نهضة لها شروط.. الأمل في السنوات القليلة المقبلة معقود بعدة أمور.

أولاً : سرعة تجاوز مرحلة الانفعالات الغاضبة والمواقف الحدية وتبادل الاتهام بالخيانة التي خيمت على الساحة العربية كلها خلال أزمة الخليج بين السعودية والإمارات ودولة قطر والبحرين  والانقسامات التي حصلت بين الدول العربية جراء هذه الخلافات  وهذا التجاوز بدوره مرهون بإدراك واع لأهمية البدء في الإصلاحات الأساسية وإن الانتقال إلى المستقبل المأمول لابد أن يمر عبر الحاضر بكل مكوناته ما نحب منها وما نكره والقطيعة الكاملة التي وقعت بين بعض الدول العربية ستظل عقبة على طريق الخروج من الأزمة، ومن هنا فلا بد من حوار سريع.. ليكن فيه ما يكون من حدة ومن عتاب ومن تحديد للأخطاء، ولكنه سيكون  في النهاية  سبيلاً إلى رشد جديد وإلى واقع لا بديل له للقيام بعمل عربي مشترك في أي مجال من المجالات, وحكماء العرب ومثقفوهم مطالبون  أشد المطالبة بالسعي بين الأطراف العربية لرأب الصدع وتمهيد طريق الحوار وتنبيه الغافلين من الحكام إلى أن مستقبل الأمة كلها رهن بأسلوب تعاملهم مع حقائق هذه الأيام الصعبة التي تراكمت فيها علينا المشاكل بكل أنواعها والهموم والأخطار.

  ثانياً : إن الثقة بالنفس ضمان لا غنى عنه لاجتياز هذه الأزمة وإذا كانت المفارقة في حياتنا مفارقة هائلة بين قيم حضارتنا العربية والإسلامية، وهي قيم حق وعدل ونهضة وحركة تقدم، وبين واقعنا العربي المحزن وهو  حتى الآن  واقع سكون وترهل وحيرة وانقسام وكلام كثير, فلنتذكر أن النعمة قد تكون أحيانا مطوية في ثنايا النقمة وأن الأزمة الكبيرة التي يعيشها كل العرب هذه الأيام يمكن أن تكون بداية حركة واعية على طريق نهضة حضارية جديدة, نعود ونقول إن الخطر على أمتنا كبير وإن الأمل مع ذلك في النهضة الكبرى أمل قائم ومشروع كبير ولكن المشكلة الآن في الواقع الرَاهن هي أن معظم  “الجيل القديم” يحمل أفكاراً مليئة بالشوائب والحالات الذهنية المرضية الموروثة التي كانت في السابق مسؤولة عن تدهور أوضاع المجتمعات العربية وتراكم التخلف  الاجتماعي والثقافي والسياسي في مؤسساتها المختلفة فالمفاهيم المتداولة الآن في المجتمعات العربية هي التي تصنع فكر الجيل الجديد وهي التي ترشد حركته, لذلك نرى الشباب العربي يتمزق بين تطرَف في السلبية واللامبالاة وبين تطرَف في أطر فئوية بأشكال طائفية أو مذهبية بعضها استباح العنف بأقصى معانيه وأشكاله,  فالمفاهيم التي تحرك الجيل العربي الجديد الآن هي مفاهيم تضع اللوم على الآخر في كل أسباب المشاكل والسلبيات ولا تحمل أي أجندة عمل سوى مواجهة الآخر وهي بذلك مفاهيم تهدم ولا تبني تفرق ولا توحد وتجعل القريب غربياً والصديق عدواً, لهذا أصبحت النهضة مطلباً ملحاً للمجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة التي تعيش حالة من التخلف والتأخر والتشتت في حين أن العالم من حولها يسير نحو الأفضل في دروب التقدم والتطور والغنى والوحدة.

المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها.

%d مدونون معجبون بهذه: