حسن النيفي

باحث وكاتب سوري

التفكير وسط العاصفة

التفكير وسط العاصفة قد يعمي البصيرة قبل البصر، فيفقد العقل قدرته على توخّي السبيل القويم، وتصبح الفكرة عرضةً للخطل والجنوح الحاد إلى هذه الجهة أو تلك، ولعل هذه الحال تكاد تنطبق على ما ينتجه السوريون من أفكار ورؤى وتصورات، سواء فيما يكتبون أو في حواراتهم وندواتهم، وصولاً إلى ما يتهاطل على وسائل التواصل الاجتماعي من سرديات تشتبك فيها العواطف بالأفكار، مما يجعل الموضوعية في التفكير أثراً بعد عين.

لعله من الصحيح أن من أهم منجزات ثورة السوريين أنها حررت الوعي السوري من الأصفاد التي كبلته طيلة نصف قرن، وأتاحت للمواطن العادي أن يقتحم فضاءات من التفكير والنقاش والحوار لم يكن ليجرأ على تبوئها من قبل، وبهذا تكون السلطة الأسدية قد فقدت أهم أسوارها التي تحصّنت بها طيلة عقود، أعني الإرهاب الذي لم تكن تمارسه على أجساد السوريين في المعتقلات والزنازين فحسب، بل ما كانت تفرضه على العقول والنفوس من خوف وترويع إلى درجة تجعل المرء يلتفت يميناً وشمالاً مراتٍ ومرات قبل أن ينبس ببنت شفة.

ولكن انطلاقة الوعي السوري أو تحرره من كوابح الخوف قد تزامنت مع واقع ميداني وحياتي مرير ومليء بالانفجارات التي أنتجت رواكم هائلة من الدخان جعلت الرؤية محجوبة لدى الكثيرين، مما أحدث صراعاً عنيفاً بين الرغبة في التفكير من جهة، وانعدام مقوّماته الموضوعية من جهة أخرى. ولعل انحسار الطور الذهبي للثورة الذي لم يتجاوز سنوات ثلاثاً، قد أتاح فصلاً جديداً لكي تباغت تفكير السوريين ووعيهم الوليد منعطفات كانت أعتى مما لديهم من رصيد وزاد فكري وثقافي، فما إن بدأ المواطن بوعي مفاهيم الثورة المنبثقة من الحرية والكرامة وحقوق الإنسان بشتى أشكالها – وهي بمجملها مفاهيم جديدة بالنسبة إلى السوريين – حتى فوجئ بقوى الظلام والتطرف تمسك به من خناقه لتعيده إلى طور سحيق من الوعي والمفاهيم الراكدة في قاع التاريخ، وعلى المستوى الميداني عاد المواطن السوري ليجد نفسه رهيناً تحت سلطات أمر واقع تكاد تكون مفارقة تماماً لمشروعه الوطني كما عبرت عنه ثورة السوريين، وهكذا انعطف التفكير والسلوك معاً نحو البحث عن أطرٍ بدائية ليحتمي بها خشية من سطوة المخاطر التي تهدد وجوده وكيانه، وهكذا أصبحنا نشهد في الحالة السورية استيقاظاً محموماً للروابط العشائرية، بل باتت العشيرة هي الكيان المعبر عن ذات الفرد، وهي كذلك مصدر الحماية وإثبات الوجود، كما باتت الطائفة هي الكيان البديل عن مشروع الدولة، كما باتت الغرابيل الطائفية والأقوامية هي التي تعمل على فلترة المواطنين لتفرز غثّهم من سمينهم، وذلك في حالة استبعاد شبه كلّي لمفرزات الوعي الثوري التي حملتها الفترة الزاهية لانطلاقة الثورة.

ولئن كان الوسط الشعبي في الحالة الثورية هو أكثر عرضةً للتصدّع وأكثر قابلية لاستيلاد حالات مضادة ، وذلك بسبب انفتاحه على مجمل الفضاءات، وكذلك لكونه مجالاً متاحاً للتعبئة الإيديولوجية وكافة أشكال الشحن العاطفي والتجييش الشعبوي، إلّا أنه على الرغم من ذلك، لم يذهب بعيداً عن فكرة الثورة، حتى وإن خُيّل إلينا أنه بعيد، فسرعان ما يعود بسرعة حين يجد بوادر ملموسة على الواقع تلامس أوجاعه وتطلعاته معاً، ولعل هذا ما يفسر لنا لماذا يحتفي أكثر السوريين بؤساً بالثورة، سواء أكانوا في مخيمات اللجوء أو أماكن النزوح، أو في بلدان اللجوء، وذلك على الرغم من أنهم يعانون صراعاً وجودياً من أجل البقاء في أغلب الحالات.

إلّا أن المستوى الآخر من التفكير الذي لا يغادر فضاء العاصفة أيضاً، لا يبدو أنه أكثر حصانة عما سواه، أو أكثر قدرةً على اختراق سحب الدخان المتراكم أمامه، وأعني بذلك النخب السورية بشتى توجهاتها، ولئن كانت انعطافة الوعي لدى التيار الشعبي العام ارتكست إلى الحواضن البدائية كالعشيرة والطائفة والمنطقة، فإن انعطافة النخب الثقافية لم تكن أقل ارتكاساً، ولكن باتجاه حواضن إيديولوجية أو عقدية ربما تعود إلى عهود سحيقة في القدم، وذلك عبر عملية فيها الكثير من التعقيد، بل والمخاتلة الفكرية التي لا تخلو من الزيف والخداع، بل غالباً ما كشفت الكثير من الخواء الكامن وراء الشعارات الرنّانة. ومن خلال مقاربة النخب السورية للعديد من القضايا ذات الحساسية في المشهد السوري، يتبين لنا تبلورُ اتجاهين مؤدلجين يرفعان الشعارات ذاتها ويتحدثان بأفكار تتماثل شكلاً وتتنابذ من حيث المضامين، فمن جهة، بدا حديث الإسلاميين، قبيل الثورة بأعوام قليلة وبعدها، مغرياً، بل ومبشراً بتحوّل فكري وسياسي بما يوازي المضامين والرؤى التي نادت بها ثورة السوريين، فالحديث عن دولة القانون والديمقراطية بات شعاراً ملازماً لحديث الإسلاميين، فضلاً عن التأكيد الدائم على تداول السلطة سلمياً وعلى الإقرار بحقوق الإنسان بعيداً عن إلزام الآخرين بمرجعية دينية محددة، إلّا أن مقارباتهم العملية لتلك المفاهيم، وكذلك سلوكهم السياسي في المشهد الثوري يؤكّد أن حرصهم على الوفاء لمرجعياتهم الإيديولوجية يدفعهم على الدوام إلى تجاهل الواقع الحياتي لشعبهم، وأن مفاهيم المواطنة والديمقراطية وحرية الاعتقاد والتعبير ليست إلّا مفاهيم تحتاج إلى إعادة تدوير وإنتاج جديد وفقاً لما تمليه المصلحة الحزبية أو الشخصية، ووفقاً لذلك، فلا تعدو الديمقراطية تعني شيئاً سوى صناديق الانتخابات، ولا يعدو فصل الدين عن الدولة سوى علمانية كافرة، كما لا تبدو العلمانية بنظرهم سوى حرية الزنا والفجور، وكأن العلمانية بالنسبة إليهم هي نظرية في ( الجنس) لا أكثر، ولا تعدو حرية الاعتقاد سوى دعوة إلى اللادينية، ولا يصمد من تلك الشعارات المرفوعة سوى جموح كبير نحو الوصول إلى السلطة، مهما كانت الطرق والوسائل.

ولا يظهر أن خصومهم من مدّعي العلمانية قد تجاوزوا الإسلاميين من حيث الخروج عن تفكيرهم النمطي المعهود، بل ربما زادوا على أسلافهم  بقليل من السلوك الاستعلائي الذي جعل قسماً كبيراً منهم يتبرأ من الثورة بحجة أسلمتها، وكأن الثورة بما تجسدت فيه من حراك مجتمعي هي التي استدعت داعش ومشتقاتها، أو كأن الشعب السوري الذي انتفض في آذار من العام 2011 كان قد وعدهم بأن الثورة السورية ستكون نسخة أخرى للثورة البلشفية عام 1917، ولئن وجدنا أن خصومهم الإسلاميين قد اختزلوا العلمانية بنظرية ( الجنس)، فإن أصحابها الحقيقيين (كما هم يدعون) لم تظهر تجليات علمانيتهم سوى بنقدهم الشديد للعبادات والشعائر الدينية ولباس المرأة والاستهتار بالقيم الدينية، وهم في غالب الأحيان لا يميزون بين ما هو ديني فقهي، وبين ما هو إجتماعي ذي صلة بعادات المجتمع وقيمه الحضارية، وبناء على هذا التصور يصبح المجتمع عقيم الاستجابة لتصوراتهم التقدمية، أو أن بذارهم التقدمي لا ينمو ويزدهر في تربة رجعية متخلفة، ولعل اللافت في الأمر، أن معظم مدّعي العلمانية لم يشاؤوا التعاطي الفعلي مع ما هو جوهري في العلمانية كمنظومة قيم متكاملة (الديمقراطية وسيادة القانون و الحريات ، وبخاصة حرية العقيدة واحترام الأديان …إلخ). ما هو مؤكّد أن السوريين بعد الثورة كانوا بأمس الحاجة للقيم الجوهرية في العلمانية، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى شخصيات وطنية سورية تفهم العلمانية على أنها منظومة قيمية تحررية وليست (بريستيج ثقافي) يمكن أن يفضي في أفضل حالاته إلى نوع من التحنّط الإيديولوجي، وتنبغي الإشارة – في هذا السياق – إلى أن الذاكرة السورية ستحتفظ طويلاً بكلام المرحوم صادق جلال العظم حين وصف انتفاضة السوريين بقوله : (هي ثورة شعبية سواءٌ تأسلمت أو تعلمنت).

الفكر المأزوم لا تنحصر أزمته في كونه مُنتَجاً معرفياً أفرع وتنامى في صميم الأزمة، بل بكونه لم يستطع وعيَ الأزمة التي يقاربها، وإن كان ثمة أسباب لذلك، فلعلّ أبرزها هي استجابته وخضوعه لسلطة الإيديولوجيا، أكثر من انفتاحه وتفاعله مع الفضاء المعرفي والواقع الحياتي.

المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها

%d مدونون معجبون بهذه: