
المهندس عبد الكريم أغا
رئيس الحركة الديمقراطية السورية
ماذا يريد الشعب السوري؟
إن اللوحة البانورامية التي تعكس ملامح سورية منذ تشكيل اللجنة العسكرية الى انقلاب حركة البعث الفئوي اللا عربي تحت مسمى ثورة الثامن من أذار عام 1963م، وسلاسة وصول الأسد الأب الى قمة السلطة دون إراقة مزيد من الدماء وقدرته على تصفية رؤسائه ومنافسيه العسكريين وخصومه من السياسيين، وفرض سيطرته الشمولية على سورية وعلى الوضع اللبناني طيلة عقود، ودوره المشبوه في الكثير من الملفات والقضايا الهامة في المنطقة وتحالفه الاستراتيجي مع نظام الملالي العدو التاريخي للعرب، والمكانة الرفيعة والمتميزة له في الدوائر الرئيسية لصنع القرار في العالم، تعتبر من الألغاز التاريخية التي لم يقدم لها تفسير مقنع حتى اليوم.
ذلك إن سورية كانت منذ أن فرض حافظ الأسد سلطته عليها موضوعا لمشروع سياسي خطير وشامل، عمل بدهاء وخبث في إدارة منظومة موجهة من أجل بناء مركّب ثقافي-سلطوي انتزع عناوينه من شعارات البعث الفئوي القومية (الوحدة والحرية والاشتراكية)، ومن دغدغة عواطف الجماهير بتبني مقولة وحدة الأمة العربية ورسالتها الخالدة، غير أن هذا المشروع كان مفصلا على مقاييس أطماع الأسد الأب وحاشيته المقربة الموثوقة لتحقيق الأهداف الرئيسية غير المعلنة للمشروع.
لقد نجح حافظ الأسد لا سيما بعد تبني حزب البعث الفئوي شعار قائد مسيرة الحزب والشعب في تحويل سورية الى سجن كبير مغلق فكريا وسياسيا وثقافيا، ومضى من موقع المتمكن يبني عناصر دولته الخاصة(أللا نظام)، لم تكن جمهورية بالتأكيد، على الرغم من تسميتها، ولم تكن ملكية أيضا، على الرغم من تثبيته فكرة التوريث على غرار الملكيات السائدة.
لقد عمل الأسد الأب كل ما بوسعه لجعل سورية محصنة ضد كل ما يتعلق بالحرية والمساواة والكرامة. كما أن ممارسات الظلم والاضطهاد بجميع اشكالها لاسيما أبان فترة حكم الأسد الأبن تجاوزت الأرقام القياسية التي يعود لها الفضل في تسريع انتفاضة الشعب السوري المنكوب.
إزاء هذه الصورة الخاصة والضبابية لشكل الدولة (اللا نظام) التي بنى عناصرها الأسد الأب فإن مخيلة المرء تمتلئ عجبا حين يلاحظ بأن هذه الدولة مقطوعة الجذور كليا عن الطروحات والشعارات التي تبنتها وتأسست عليها سلطة البعث.
ولا شك بأن تلك الصورة الخاصة للدولة التي أدارها الأسد الأب والأبن قد ترسخت على نحو لا لبس فيه في ذاكرة الجماهير التي خرجت الى الساحات العامة وهي تهتف (الشعب يريد اسقاط النظام) بمعنى أدق الشعب يريد اسقاط الدولة الخاصة أو اللا نظام وبمعنى أكثر دقة الشعب يريد إنهاء الفوضى التي عبثت بسورية على مدى ستة عقود.
ما هو مفهوم دولة البعث؟
عموما يعرّف نظام الحكم الجمهوري بأنه نظام أو أسلوب الحكم الذي يقوم على مبدأ سيادة الشعب ومشاركته في اختيار الحاكم الذي يدير شؤون الدولة وفقا للدستور الذي يقره البرلمان الوطني من خلال استفتاء شعبي حر.
يحق للشعب المشاركة في كافة مجالات الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها، حيث لا يستطيع الحاكم اتخاذ القرارات دون الرجوع الى الشعب من خلال الانتخاب والتصويت وابداء الراي.
تشارك كافة فئات الشعب في القضايا الهامة وتكون النتائج ملزمة للحاكم، كما يشترط موافقة الشعب على أداء الحاكم لضمان استمراره في الحكم، وتحدد أيضا سنوات بقائه في الحكم بفترة زمنية محددة (أربع أو ثمانية سنوات).
من هنا يمكننا القول إذا اسقطنا مفهوم النظام الجمهوري على شكل دولة (اللا دولة) البعث الفئوي التي بناها الأسد الأب، إن هذه الدولة الصورية التي حظيت برعاية النظام العربي والحرص الدولي بكتلتيه الشرقية والغربية، ماهي إلا مؤسسة وظيفية لا ترقى الى مستوى الجمهورية بالمفهوم العام.
هذه الدولة الخاصة هي ظاهرة تاريخية شاذة ومعقدة وغامضة، ينبغي أن يعاد النظر في قراءتها. ينبغي أن تدرس دولة البعث من جميع جوانبها، وهي بلا ريب قصة معقدة ذات حلقات تطورت بفعل عوامل ومؤثرات خارجية أولا وداخلية ثانيا في الزمان والمكان الملائمين.
أما اسطورة القائد الخالد وقائد مسيرة الحزب والشعب ماهي إلا غطاء للحقائق التي تشير بكل وضوح الى النتائج التي ترتبت على هذه الأسطورة ودورها الوظيفي في منع قيام الدولة الحقيقية خدمة لمشروع سياسي شامل ذو أبعاد دولية، حيث يعتبر قتل وتهجير شعب بأكمله على مرأى ومسمع العالم من أجل احداث تغيير ديمغرافي إحدى أخطر مؤشرات وأهداف ذلك المشروع.
وفي هذا السياق، إن ما أقدم عليه رئيس الدولة الخاصة من تصرفات لا تليق حتى بأشباه الدول في مواجهة أطفال درعا قد أحدثت هزة عميقة في الوجدان الشعبي في جميع أنحاء البلاد، تحولت بسرعة الى أحداث سياسية عنيفة، وزحفت الجماهير الى الساحات العامة وهي تهتف الشعب يريد اسقاط النظام وهو أي الشعب يدرك تماما بأنه لا وجود لنظام حقيقي في سورية بل توجد فوضى تديرها مؤسسة إرهابية دولية يرأسها دكتاتور سادي يحمل صفات لا إنسانية.
هذه هي الحقيقة في مواجهة من يتهم تلك الجماهير بأنها تريد اسقاط النظام الجمهوري واسقاط الدولة السورية التي توجد فقط في مخيلة مؤيدي الإرهابي الحاكم المستبد.
ماذا يريد الشعب السوري؟
مما سبق يمكننا القول بأن الشعب السوري قد سئم البقاء في ذلك السجن الكبير وأصبح يبحث عن الحرية والمساواة والكرامة وهو يدرك تماما الثمن الباهظ الذي سيترتب على ذلك.
لقد انكشفت خيوط اللعبة القذرة الذي طالما لعبها النظام الوظيفي ليخدع شعبه طيلة عقود على نغمة المقاومة والممانعة. لذلك كان المطلب الأول للشعب هو اسقاط الدولة الخاصة الوظيفية التي صادرت حق الحياة كبشر لعموم السوريين، واسقاط نظام الحزب الواحد وإنهاء ديكتاتورية العائلة المتوحشة واستعادة الشرعية المفقودة منذ انقلاب البعث الفئوي عام 1963م.
يريد السوريون إعادة ترميم النسيج الوطني الذي مزقته سلطة البعث، وبناء دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات، كما يريدون صياغة عقد اجتماعي وطني للعيش المشترك معا في ظل دولة القانون والدستور.
يأتي في صلب مطالب السوريين بناء جيش وطني محترف يوفر لهم ولدولتهم ولأرضهم الحماية ولا يستخدم كأداة بيد أي سلطة كانت لقتلهم وتهجيرهم وتدمير وطنهم. يسعون من أجل تأسيس جهاز أمن وطني يوفر لهم الأمن والأمان والسلم المجتمعي ولا يستخدم من أجل مراقبة وملاحقة أبناء البلد وتعريض أمنهم لخطر الموت أو النفي أو تحويل حياتهم الى جحيم من خلال الملاحقات الأمنية خارج إطار القانون والدستور وبلا مبرر.
ويناضلون من أجل بناء دولة مؤسسات تخدم الشعب وترعاه وتصون كرامته الإنسانية، ولا يريدون أن يتحولوا الى عبيد ومرابعين ومماليك في خدمة تلك المؤسسات. يطمحون لانتخاب حاكم يعتبر نفسه خادما للوطن والشعب وليس زعيما يعتبرهم خدما في مزرعة جماعية.
بطبيعة الحال إن دولة المواطنة تسعى لإرساء علاقات سليمة مع دول الجوار تستند على مبادئ الاحترام المتبادل والمنافع المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
يأتي في مقدمة المهام المنوطة بالسلطة السياسية المنتخبة ديمقراطيا حل جميع القضايا الخلافية العالقة مع دول الجوار بالطرق السلمية وفقا لقواعد الشرعية الأممية.
هذا الوضع الجديد بعد تحرير سوريا من حكم العائلة وسطوة استخباراته، وتجاوز اكذوبة المقاومة والممانعة (التي استخدمها النظام الاسدي الفاشي العنصري في استعباد الشعب السوري على مدى أكثر من خمسة عقود) يستوجب تبني شعار إعادة الاعمار والبناء والتنمية والازدهار في دولة الحرية والعدل والديمقراطية، وتبني ثقافة المحبة والسلام بدلا من ثقافة الكراهية والتطرف من أجل استعادة امجاد سوريا كما كانت وطنا لجميع السوريين. يدا بيد يبنون معا دولة المواطنة المدنية العصرية التي يسود فيها قوة القانون وليس قانون القوة، وطن الابجدية الأولى يستظل جميع أبنائها بغمامة الحرية والسلام والعدل والمساواة.
مسؤولية ما تسمى بقيادة المعارضة؟
ثمة سيناريوهات متعددة ومختلفة وضعت لمعالجة المسألة السورية في السنوات العشر الماضية، غير أن الغائب الكلي عن مجرد الاطلاع على تلك السيناريوهات كانت ما أطلق على تسميتها قيادات المعارضة المشغولة بالتسول والعمالة على أبواب السفارات والخدمات السرية وتكديس رؤوس الأموال، ومتابعة استثمار رؤوس الأموال التي نهبتها، والمتاجرة بشراء وبيع العقارات والسيارات وشراء المنازل الفاخرة في أكثر المدن والحواضر العالمية غلاء. تلك الرموز الفاسدة التي سرقت امل الملايين الثائرة وحولت الثورة من مسارها الوطني الى مسار أيديولوجي حزبي ضيق ومذهبي مقيت يعكس الجانب الأبشع من هوية النظام المجرم. لقد عكست تلك الرموز الساقطة صورة مشوهة للعالم الخارجي الذي أحجم بنتيجته عن دعم المطالب الشعبية السورية لا سيما من قبل الرأي العام الشعبي قبل الحكومي. لقد تحولت مؤسسات المعارضة الى اوكار عمالة وارتزاق وملاحقة الوطنيين المخلصين، وكرست أمرا واقعا متناقضا مع مطالب الشعب وعثرة كبيرة أمام الحل السياسي ورديفا ملازما لبقاء واستمرارية العصابة الحاكمة في دمشق.
لم تكن رموز المعارضة الفاسدة العميلة مؤهلة لفعل أي شيء مفيد للثورة أو متناسب مع مطالب السوريين لعدم اهليتها المهنية سواء السياسية او العسكرية او الأخلاقية وافتقارها للشرعية الوطنية، كما انها لم تكن تمتلك إرادة التنحي لمن هو جدير بقيادة المرحلة بل تمسكت في مواقعها بناءا على أوامر موظفي الدرجة الرابعة من الخدمات السرية متعددة الجنسيات والتي عبثت عن سابق إصرار وترصد بالقضية السورية وعملت على اسكات وابعاد كافة الكوادر الوطنية المؤهلة والمخلصة.
من المؤكد بأن قراءة الوضع الميداني في سورية وانتشار القوى والميليشيات الإرهابية المحلية والأجنبية وعشرات الفصائل المسلحة غير الخاضعة لقانون أو عرف على جغرافية البلد، يفرض علينا الإقرار بحتمية وجود هيئة سياسية وطنية محترفة تكون مظلة لقيادة عسكرية وطنية مؤهلة لوضع الخطط ومتابعة والاشراف على تنفيذها من أجل نزع وتجميع وضبط السلاح في عموم البلاد وتنقية التراب السوري من الاحتلال والدنس الإيراني والتطرف والإرهاب ومن كافة الميليشيات الإرهابية.
يجب الابتعاد عن الشعارات الغوغائية الجوفاء التي غرستها السلطة الحاكمة في عقولنا طيلة عقود من الزمن، وننظر بعيون ثاقبة لواقع حال أخوتنا في الداخل والخارج النازحين منهم والمهجرين أو الموجودين تحت سلطة جلاد دمشق، نعود ونؤكد نحن أي السوريين بأننا نبحث عن طرق الخلاص من المعاناة والدروب والمسالك التي توصلنا بأمن وأمان وبكرامة الى ديارنا التي هجرنا منها.
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها