حسن النيفي

باحث وكاتب سوري

إنشطار أخلاقي أم تجانس سياسي؟

لعل السمة المشتركة الأبرز بين الكيانات ذات الطابع الشمولي الاستبدادي المغلق ( سواء أكانت هذه الكيانات دولاً أو حكومات أو أحزاب أو منظمات ….) هي ميلها الشديد نحو التكلّس وافتقادها للقدرة على التفاعل مع المؤثرات المحيطة بها، فضلاً عن انكماشها الشديد على ذاتها إلى درجة افتقادها لأي جانب حيوي يمكن أن يمنحها المرونة اللازمة للانحناء والتبدّل والاستجابة للمتغيرات الطارئة، وغالباً ما تنتهي تلك الكيانات إلى بنية متخشّبة عقيمة، عصيّة على الإصلاح أو التغيير المبرمج المدروس أو إعادة ترتيب بنية الإدارة أو الاستجابة لأي منهجية إدارية جديدة، وبالتالي يتحوّل دورها من بنى ذات وظيفة تفاعلية، إلى منظومات متحجّرة تدافع عن بقائها واستمرارها، وعندئذٍ تصبح عوامل قوتها لا تنبثق من داخلها بقدر ما تنبثق من ضعف خصومها، وحين يتداعى أي جزء منها، أو يتعرض للتصدّع والانهيار، تتداعى بقية الأجزاء بسرعة، بل غالباً ما تؤدي أي خلخلة في أركانها إلى انهيار كامل أو انفجار مباغت.

يمكن التأكيد على أن نظام الأسد ( ككيان سلطوي) هو أحد أبرز البنى السلطوية التي تحوز على المواصفات السابقة، وربما كان فشل كل الرهانات التي عقدها الكثيرون على احتمالية إصلاح النظام، إنما يعود إلى غياب الفهم العميق لماهية السلطة الأسدية، أي لبنيتها الداخلية، إذ ما يزال يصرّ الكثيرون ممن يناهضون نظام دمشق على توصيفه ب ( الديكتاتوري) وهو وصف لم يعد يقارب الماهية الفعلية النظام، ذلك أن النماذج الديكتاتورية كثيرة في العالم، ولكن لا يمكن مساواتها كلها بالمقاس ذاته، إذ ثمة تفاوتات كبيرة فيما بينها، ولعل اختزال توصيف نظام الأسد بهذه التسمية فقط، إنْ هو إلّا اختزال لفداحة الكارثة التي تسبب بها هذا النظام لجميع السوريين.

لم تنطلق النخب السورية ( بعد اندلاع ثورة آذار 2011 ) في مواجهة الطغمة الأسدية استناداً على فهمهم وتشخيصهم الدقيق لخصمهم، بل آثروا استلهام فهم مستعار غالباً ما كان يأتي عبر مؤثرات إعلامية أو ثقافية لا صلة لها بواقعهم المعاش، وبناء على هذا الفهم المستعار راحوا يتوهمون بأن سورية هي دولة مؤسسات يحكمها دستور وقوانين منبثقة عنه، وربما توهموا أن وجود دستور جديد من شأنه عزل السلطات التنفيذية وانتزاع السلطة من أيديها، وقد أدى التمسّك بهذا الوهم إلى وصول الكارثة السورية إلى أعلى درجاتها، وربما تغدو الكارثة أكثر استفحالاً وتعقيداً حين نجد أن لوثة غياب الفهم واستمراء الاستلاب بشكليه النفسي والعقلي قد بات سمة عامة ليس في ميادين المواجهة مع الطغمة الأسدية فحسب، بل بات ناظماً منهجياً للتفكير لدى معارضي الأسد أيضاً، ما يعني أن الطغمة الأسدية لم تفلح في سحقها لأرواح السوريين وتخريب بلدهم ومصادرة مقدراتهم وحيواتهم فحسب، بل أفلحت كذلك في توريث معارضيها لوثة التفكير القميء الذي لا ينتج إلّا الخراب. يبدو ذلك جلياً فيما يراه السوريون منذ أوائل شهر نيسان الجاري من مطاحنات وتدافع بالأرجل بين أعضاء كيان ابتدعه الآخرون وابتلى به السوريون، وأعني بذلك ما يدعى ( الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في سورية)، ولو كان هذا الائتلاف بالفعل ( دكاناً ) كما وصفه أحد المطرودين من أعضائه، لكان الأمر سهلاً للغاية، ذلك أن الدكان يخضع لإرادة صاحبه وبإمكانه إغلاقه أو تصفيته أو ما إلى ذلك، وبالتالي ما يلحقه من جرائر فإنها لا تعود من الفشل أو النجاح إلا على صاحبها، ولكنه دكان مليء بالشبهات والموبقات يحاول القائمون عليه حشر السوريين فيه زوراً وبهتاناً، بغية المتاجرة بهم والاستثمار بأرواحهم ومصيرهم، إذ ليس من قبيل الصدفة أن يصرّ الإئتلافيون على معالجة إشكالياتهم وأزماتهم ، وكذلك الدفاع عن دكّانهم ، بالطريقة ذاتها التي يحاول فيها بشار الأسد وزمرته الدفاع عن كينونته السلطوية، وربما وُجِد من يحتج – في هذا السياق – على المماثلة بين نظام الأسد ومعارضيه من الإئتلافيين، وللتوضيح أكثر يمكن القول: ربما تمايز نظام الأسد عن وصيفه الإئتلافي من حيث الجوانب الشكلية للخطاب وربما بعض المصالح أيضاً، ولكن ما يجمعهما معا هو التماثل في آليات التفكير وما تُنتِجه من حجج ومسوّغات ووسائل في معالجة الأزمات، ذلك أن تفكير الطغاة والمستبدين وأصحاب الشهوات العارمة في عشق السلطة والتسلّط هو واحد، وإن اختلفت المواقع.

لقد بشّر الأسد ( الابن) بالإصلاح منذ أن ورث السلطة من أبيه في حزيران عام 2000 ، وبعد انقضاء عشرة أعوام من حكمه، وعند أول صيحة ( حرية ) صدحت بها حناجر السوريين أمطرهم بوابل رصاصه، ومن ثم جعل من سورية ساحة حرب ضد السوريين، ولم يتوان – في سبيل بقائه في السلطة – عن الاستقواء على شعبه بشتى أشرار المعمورة، موضحاً لجميع السوريين أن الترجمة الفعلية لخطاب الإصلاح ما هي إلّا المزيد من الإمعان في ممارسة الإجرام والقذارة بشتى تجلياتها. ولعل السنوات العشر التي خدع بها الأسد السوريين، قد أُتيح مثلها أيضاً لمعارضيه من الإئتلافيين كي يمارسوا خلالها ما بدا لهم من موبقات بحق القضية السورية، وذلك في تحدٍّ صارخ لجميع الأصوات التي كانت تناشدهم بالنصح تارةً والتقريع تارةً أخرى، ولكنهم كانوا في برزخ آخر مطمئنين إلى أن من أوجد دكانهم وأسس له هو راضٍ عن عبثهم، ولكن حين ازداد الضغط الخارجي موحياً بضرورة ( تهوية الدكان ) الذي طال انغلاقه وازدادت روائحه نتانةً، فما كان من هذا الضغط الذي أحدث فرجةً صغيرة، سرعان ما تقاذف منها كل هذا الذي نراه من شتائم واتهامات متبادلة واستماتة للبقاء داخل الدكان الذي بدا موبوءاً من كل جوانبه.

لعل ما لا يدركه المتشاتمون والمتهاوشون هو أنهم لا يتهاوشون على ( صيدة ) شخصية، وإنما يتستّرون بالحديث عن قضية نبيلة لم يستطيعوا الرقيّ إلى مستوى الحديث عنها، ذلك أن تضحيات السوريين ومأساتهم الممتدة لأكثر من عقد من الزمن هي أسمى بكثير من طموحاتهم الوضيعة.

ربما كانت التداعيات الراهنة لفضائح الإئتلاف لم تفاجىء الكثيرين ممن استبصروا منذ زمن ماهية الإئتلاف وظروف نشأته والغايات التي توخاها من أوجده، ولكن ما هو لافت للانتباه حقاً هي حالة ( الانفصام ) التي نجدها عند أعضائه ، سواء المطرودين منهم أو الطاردين، حين يتحدثون على وسائل الإعلام، وهم في حالة استخفاف و تجاهل كامل لمشاعر السوريين قبل عقولهم، وكذلك في تجاهل فظيع لما يجري من وقائع، إلى درجة تجعل المرء يتخيّل أن نظرية ( التجانس ) التي يطالب بها بشار الأسد هي في الوقت ذاته إحدى مطالب الإئتلاف، ولكن عليهم جميعاً ألّا ينسوا أن تجانسهم الذي ينشدونه لن يصمد أمام إصرار السوريين وسعيهم نحو تحقيق مزيد من التنوّع والديمقراطية والحرية.

المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها

%d مدونون معجبون بهذه: