
حسن النيفي
باحث وكاتب سوري
الفصائلية العسكرية هل باتت مشكلة مستعصية؟
يحتفظ وجدان المسلمين جميعاً بقيمة رمزية كبيرة لشهر رمضان، بل ربما تجاوزت هذه الرمزية حدود الفريضة الدينية، لتتحوّل إلى طقس إجتماعي بهيج حافل بنوازع إنسانية متدفقة، بل يمكن الذهاب إلى أن شهر رمضان بات موعداً للتراحم وازدياد الوئام وتجلّي الخيرات، خاصة لدى الطبقات المتوسطة وما دونها، نظراً لكونها أكثر التصاقاً بالنزعة الدينية الفطرية و بالموروث الشعبي والاجتماعي بشكل عام. إلّا أن شهر رمضان، ومنذ عقد ونيّف ، بدأ يفقد زهوه الروحي والاجتماعي لدى الكثير من السوريين، فالحرب التي أعلنتها الطغمة الأسدية على الشعب السوري لم تعد تداعياتها محصورة بجانب محدد من حياة السوريين فحسب، بل طالت أدق تفاصيل حياتهم ومشاعرهم وطرق معيشتهم، ثم ما لبثت تلك الحرب أن أفرزت العديد من سلطات الأمر الواقع على الجغرافية السورية، وكأن كل سلطة من هذه السلطات باتت تمارس الإذلال والإهانة على السوريين نيابة عن مركز الإجرام الأسدي، وذلك وفق منهج بعيد كل البعد عن مراعاة أي جانب إنساني، ودون الاكتراث لأية قيمة مجتمعية ذات حضور في الوجدان الجمعي للمواطنين.
السوريون، ممّن هم في الداخل السوري، في المخيمات أو تجمعات النزوح، أو البلدات التي باتت ملاذاً للمُهجَّرين من ديارهم، هؤلاء هم الأكثر بؤساً من الناحية المعيشية والخدمية، وهم الأقلّ قدرةً على مواجهة التحديات المعيشية التي بدأت تعصف بهم في ظل ارتفاع شديد في الأسعار وانعدام مستوى الدخل و غياب فرص العمل، ولعله من بواعث المرارة والأسف أن هؤلاء جميعاً كان لهم موعد مع مضاعفة المأساة، إذ يتزامن شهر الصيام مع اندلاع سلسلة جديدة من الاقتتال الفصائلي الذي اتخذ من الأسواق وساحات المدن والبلدات ميادين للاشتباكات بين فصائل وكتائب كان من المفترض أن تكون قد وُجدتْ للحفاظ على حياة المواطنين وممتلكاتهم، إذ تشير الإحصائيات الدقيقة إلى وقوع اثنتي عشرة حادثة اقتتال بين الفصائل العسكرية في الشمال السوري خلال شهر رمضان الحالي، وقد أودت تلك الاشتباكات بحياة خمسة عشر مواطناً مدنيا، عدا عن الجرحى، كان آخر تلك الضحايا المرحوم مصطفى الباش، وهو شرطي دفعته الحاجة، كمعظم السوريين، للعمل كسائق تكسي خارج نطاق ساعات عمله الوظيفي لتأمين قوت أطفاله الذين كانوا بانتظار عودته مساءً حاملاً لهم حاجيات الإفطار، إلّا أنهم استقبلوه جثة هامدة تسبح بدمائها نتيجة رصاصة طائشة استقرّت في رأسه. وكما جرت العادة، غالباً ما يعقب الحادثة موجة استنكارات لا تتجاوز تخومها الإعلامية لمدة يوم أو اثنين، وربما في أفضل الحالات يقوم أحد أطراف القيادات في (الجيش الوطني) بإصدار بيان ينتهي مفعوله بعد ساعات من إصداره. في حين أن الجميع بات يعلم أن كل تلك الإجراءات لا تقترب بالمطلق من المقاربة الحقيقية لمعالجة وقوع الجريمة، وهل يكفي أن يصدر بيان من قيادة الجيش الوطني يؤكد على منع حمل السلاح بين المدنيين؟ ألم يكن هكذا تأكيد موجوداً في السابق؟ وهل سيحول تكرار البيانات دون تكرار الجريمة؟ وفي موازاة هذه التساؤلات يبقى التساؤل الأهم: إلى متى ستبقى أرواح السوريين عرضةً للزعرنة والاستهتار؟
لعله من غير المفيد التماس الحلول التي تتعاطى مع النتائج وتتجاهل الأسباب الجذرية، بل ربما كان المضي بسياسة الترقيع عاملاً يعزز المشكلة بدلاً من الإسهام في إيجاد الحلول المناسبة لها، وفي هذا السياق يمكن الوقوف عند جانبين اثنين:
الأول : ربما كان صحيحاً أن ثمة حكومة مؤقتة ووزارات، من ضمنها وزارة الدفاع، وثمة مؤسسات أمنية كالشرطة العسكرية والشرطة المدنية، وكذلك ثمة مؤسسات قضائية، إلّا أن جميع تلك الكيانات تكاد تكون بلا أثر أو فاعلية أمام تغوّل الكيانات الفصائلية التي هي صاحبة الكلمة والفعل على أرض الواقع، ولعلها ليست من قبيل المبالغة حين نجد أن قائداً فصائلياً لا يملك أدنى مقوّمات المهنية العسكرية، يحظى بنفوذ فعلي يفوق نفوذ أي رتبة عسكرية حقيقية، وغنيٌ عن البيان أن الكيانات الرسمية حين تكون صورية فحسب، وتقبل الاستمرار بصوريّتها، فيتحوّل دورها حينئذٍ إلى شاهد زور على مشروعية الفوضى والخراب، أضف إلى ذلك أن أيّ تجمع عسكري تغيب عنه القوانين الناظمة والإدارة والقوّة التنفيذية الرادعة، سيتحوّل بلا أدنى ريب إلى مصدر لتقويض الأمن وإشاعة الفوضى والعبث. وفي ظل هذا الواقع المرير لا بدّ من استحضار السؤال المتكرر والذي يجب ألّا يغيب عن الأذهان: لماذا يُستبعد آلاف الضباط الوطنيين السوريين المنشقين عن جيش النظام ممّن يحملون أفضل الخبرات والاختصاصات عن صفوف (الجيش الوطني)، فيما نجد المجال مُتاحاً لتصدّر أشخاص لا ينتجون إلّا الخراب؟ ألا يحيل مشهد تغوّل الحالة الفصائلية الراهن إلى الحالة الميليشياوية التي كانت تتجسّد بجيش نظام الأسد من خلال سرايا الدفاع والوحدات الخاصة والأطراف الأمنية الأخرى التي كانت تنحصر مهمتها بالتنمّر والاعتداء على المواطنين وترويعهم في فترة الثمانينيات من القرن الماضي؟.
أمّا الجانب الثاني فهو ذو طابع سياسي، ويتمثل في غياب وحدة الانتماء، أو الشعور بوحدة القضية، وبالتالي غياب المشروع الجامع لتلك الفصائل ذات الأعداد الغفيرة، ذلك أن هذه الكيانات العسكرية لا تملك قرار الحرب ولا قرار السلم، ويغلب على عملها الطابع الوظيفي، ولعلها لا تتحمّل مسؤولية ذلك وحدها، بل ربما المسؤولية الأبرز تقع على عاتق القيادة السياسة، فالشرخ القائم بين الجانب العسكري والسياسي لقوى الثورة كان قائماً منذ البداية ولم يزل، ولا يلغي هذا الشرخ وجود تمثيل لبعض الفصائل في الإئتلاف مثلاً، ذلك أن تمثيل الفصائل مثله كمثل سواه من التمثيلات الأخرى، لا يتعدّى التطبيق الدقيق لمبدأ المحاصصة وليس التكامل.
هل يحتاج السوريون إلى جيش وطني؟ نعم وبكل تأكيد، هم بأمس الحاجة إلى كيان عسكري مهني يدافع عن أمنهم ويعمل من أجل نصرة قضيتهم، يحتاجون إلى جيش يجبُّ الصورة السوداء لجيش الأسد ويظهر بصورة ناصعة تتماهى مع نصاعة أهداف وتطلعات الثورة السورية، وكل ما سوى ذلك من تشكيلات عسكرية فلن تكون إلّا عاملاً في تعزيز مأساتهم.
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها