
صفاء شاوي
أكاديمية سورية
لماذا أصبحنا أخر الأمم .. ..؟
لعل السؤال الذي يقض مضجع أي عربي هو: أما من وسيلة تمكننا من التحرك إلى الأمام لمواكبة حركة الأمم المتحضرة؟ إنهم يركضون ركضاً بينما نقف نحن العرب عاجزين نكتفي بالتأمل أحيانا وبالتحسر في معظم الأحيان ما من فرد يتصف بقليل من الوعي إلا ويشعر أننا واقفون في مواقعنا التي وصلنا إليها منذ تخلصنا من سيطرة الأجنبي المتمثل في الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين, ولعلني لا أبالغ إذا قلت إننا أشبه براكب الأرجوحة يروح إلى الأمام حينا ويرجع إلى الوراء حينا آخر، ذلك هو حالنا منذ عقود ، أما الآن فإننا قد وقفنا في تلك المواقع التي وصلنا إليها أو ربما رجعنا إلى الوراء. والسؤال الذي يقض مضاجع الفرد العربي في كل مكان هو: ألا توجد وسيلة تمكننا من أن نتحرك إلى الأمام في أي جانب من جوانب الحياة …؟ في حين أن الأمم المتحضرة لا أقول تمشي إلى الأمام وإنما أقول تركض إلى الأمام في معظم جوانب الحياة والذي يتابع ما يصدر من نشاط المثقفين في هذا الخصوص يتجلى له اختلافهم في علاج ما نعانيه من أمراض أو قل ما نعانيه من قيود منعتنا عن الحركة إلى حد أصبحت فئات كبيرة قد استولى عليها القنوط فأطلق عليها البعض اسم القدريين بسبب ما يعلنونه من أن هذا قدرنا ولا مفر من الأقدار وهناك فئة كبيرة أخرى تعتقد بأن سبب هذا التأخر يرجع إلى أن العقلاء ابتعدوا عن نشاطهم بين الناس حتى أصبحت حقائق تطلق الاتهامات الخطيرة على من يحاول إثبات أنها مستحيلة الوقوع، وإذا تكبل العقل بهذه الأغلال الثقيلة فإنه من المستحيل أن تتقدم الأمة لأن العقل هو المصباح المنير الذي يبدد هذه الظلمات التي جعلتنا نحيا في ليل أسود لا نكاد خلاله نبصر راحات أكفنا لشدة الظلام وقد اتفق الباحثون في علم وظائف الأعضاء على أن الإنسان يفقد كثيراً من قوته بل ربما يفقد قوته حينما يهمل أو يرغم على السكوت ولا يخطئ من يقول إن العقل تعتريه هذه الحالة ولا يشك أحد في أن ابتعاد الناس عن الأخذ بنصيحة العقل المستنير أثراً كبيراً فيما نعانيه من تأخر, ولكن ما ذكرناه يثير عدة أسئلة منها :
لماذا ابتعد العقل حتى صارت الخرافات حقائق ..؟ وعند التقدم بهذا السؤال يأتيك الجواب: بأن العقلاء المستنيرين استمروا الراحة، لما رأوه من تعرض المستنيرين للاضطهاد وقمع يكاد يفوق الخيال لأن العامة قد سيطرت على الساحة ولا تسل عما يحدث لمن يتصدى لمقاومة آراء العامة أو خرافاتهم على الأصح، فقد حدثنا التاريخ بأحاديث كثيرة عما حصل لبعض العلماء وهي كثيرة : أليس من المفروض أن يعرض المتخصص في القانون ما يقرأه أو يسمعه على عقله ليستفتيه فيما وصل إليه , لكن التراكمات التي انغرست في عقله الباطن تجعل إيمانه بالعقل محدوداً يكاد يقف عند القضايا التي يطلب منه النظر فيها أو الدفاع عنها, وأعني بالتراكمات هنا ما ينغرس في عقله منذ نعومة أظفاره, إذ إن طرائق التربية عندنا تقتصر على أن يسمع الطالب أو الطالبة ما يلقيه المعلم أو المعلمة على الطالب الذي ينبغي أن يؤمن بما يلقى عليه كأنه وحي منزل من السماء، هذا الأسلوب نستعمله في دراستنا من صفوف الروضة حتى المرحلة الجامعية، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن معظم فصول الجامعة تسلك هذا الطريق إذ لا يوجد حوار بين الطالب والمدرس إلا في حالات نادرة ، وهذه قضية تحتاج إلى تفصيل لا يحتمله هذا المجال وإذا أردنا أن نرسم صورة متكاملة لما يغرس في عقول ناشئتنا فإن علينا أن نستعرض مواد كتب المناهج، وهذا ما لا سبيل إليه في هذا المقام، لكن ذلك ربما يفسر ما ذكرته مما نلمس من تناقض في تفكير الكثير منا، فكل الكتب التي يعالجون فيها المشاكل الفكرية بصورة عامة يعلنون أن الله فرق بالعقل بين الإنسان والحيوان ولكنهم لا يلبثون أن يغرسوا في العقول قصصاً يرفضها العقل أشد الرفض وما عليك إلا أن تقبلها أو ستوصف بأنك مكابر معاند جاهل , أو بوصفك بالعلمانية حيث كثر استعمال لفظة “العلمانية” هذه الأيام كتهمة جاهزة لمن يختلف في الرأي مع بعض “حملة القلم” وهي تعني بمفهومهم الخروج على الدين ومعصية الخالق في شريعته وهؤلاء الكامنون لكل ذي عقل نير، مستعدون لإلصاق الكفر والإلحاد لهؤلاء والنكبة أن كثيراً من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة تبث عن أشخاص يفترض فيهم أن يصحبوا عقولهم فيما يصدرونه من أقوال وما يقومون به من أفعال …؟! وما أظن أنني في حاجة إلى القول بأن سيطرة الرأي الواحد بالقوة على جميع الآراء تطفئ أنوار الإبداع وتوقف عجلة التقدم, فالأمم لا يمكن أن تتلاءم مع عصرها إلا إذا تفاعلت مع حضارته وهذا لا يحدث إلا إذا سمح لمختلف الآراء بأن تملأ الساحة الفكرية، وأن يكون الحوار هو الوسيلة التي نتوصل بواسطتها إلى الحقائق . وما أظن أن أحداً يجادل في أن القوة هي التي تتحكم في مسيرة حياتنا السياسية والاجتماعية، وأرجو ألا أكون مخطئاً إذا اعتقدت بأن تغيرنا إلى الأفضل لا يحدث إلا إذا فسحنا المجال لمختلف الآراء، ورفدنا ذلك بفسح المجال أيضاً لمختلف العلماء والباحثين بحيث يستطيعون تطبيق ما اكتسبوه من علم في مختلف الجامعات ومن المؤسف حقاً أن عقولاً كثيرة وجدت الأبواب مغلقة دونها أو قد وجدت الكثير من العقبات حينما عاد أصحابها إلى العمل في أوطانهم الأمر الذي اضطرها إلى الهجرة لتعمل في مختلف البلاد الغربية لأنها تعطى هناك ما تحتاج إليه من معاملة كريمة بالإضافة إلى ما تحتاج إليه من مختبرات وغيرها، فما من ميدان من ميادين العلوم إلا وتجد فيه أفذاذاً من الذين ينتمون إلى مختلف البلاد العربية. إذن فإننا لا يمكن أن نتقدم إلا إذا توافر لنا هذان الأمران , أحدهما : الانفتاح على مختلف الآراء فلا يسيطر رأي واحد على كل الآراء, والأمر الثاني : هو أن نعطي علماءنا كل ما يحتاجون إليه من رعاية تليق بمكانتهم العلمية ومن تيسير ما يحتاجون إليه ليتمكنوا من تطبيق ما تعلموه ونقوم بربط المجتمع بقاطرة العلم تلك. ولا أود أن تفوتني الإشارة إلى ما يتصف به بعض حملة الأقلام من ضعف أمام المغريات المادية بأنهم أصبحوا “سماسرة أفكار وتجاراً يبيعون مهاراتهم البحثية في سوق النخاسة الفكرية ويتقاضون ثمناً باهظاً تحت شعار إذا لم تستطع أن تصنع الثورة فلتراكم الثروة ومما يحز في النفس أن معظم أسماء هؤلاء الكتاب من الشيوع والشهرة بحيث يفترض بأصحابها أن يكونوا من المخلصين لرسالة الفكر الحضاري في حين نجدهم يبيعون قدرتهم على الكلام في السوق ويقدمون أي شيء يطلب منهم غير مبالين فيما إذا كانت كتاباتهم تخدم أمتهم أم تقوم بتدمير عقول أبنائها إن أمثال هؤلاء لا تهمهم إلا مصلحتهم الذاتية، وما يزيد الطين بلة ويجعل الضرر أكبر أن وسائل الإعلام تقوم بتلقف آرائهم المضللة والمكرسة للجهل, بل وسرعان ما يتم تحويلها إلى روايات وسيناريوهات وتحويل أصحابها إلى قادة في الفكر والعلم وهذا ما يجعل من هذه الأمة أكثر جهلاً وتراجعاً في كل مجالات الحياة العصرية وعدم اللحاق بموكب الدول الحضارية .
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها