النقيب المهندس محمود الشيخ علي

باحث في الشؤون الاستراتيجية

القطبية العالمية بين الأحادية والتعدد

محاور البحث:

أولا: المقدمة.

ثانيا: حوار في القطبية.

ثالثا: ما بعد عصر الحرب الباردة.

رابعا: القطبية من خلال الحرب.

خامسا: مصير الأقطاب.

سادسا- هل تشكل الأزمة بين الغرب وموسكو بداية “نظام عالمي جديد وماهي تداعيات تصاعد الأزمة الأوكرانية على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟.

أولا- المقدمة:

 ما من قضية استقطبت اهتمام العالم في الدول الكبرى والصغرى في أوساط صانعي القرارات السياسية والعسكرية في محيط الإعلام والاقتصاد والثقافة والفكر كمثل قضية (القطبية)، وقد أثارت هذه القضية من الحوار والجدل مالم تحققه أية قضية أخرى. ولا ريب أن قضية (القطبية تستحـق مـثـل هذا الاهتمام العالمي بعد أن أصبحت هذه القضية تمثل السياسة الاستراتيجية العالمية، وتمثل القرار العالمي- وبالتالي مستقبل العلاقات الدولية والقارية والإقليمية.

ويبدو واضحاً أن قضية (القطبية) لم تعد قضية حوار بين مراكز القوى الكبرى في العالم، بل إنها تجاوزت ذلك إلى حدود ممارسات القطبية بصورة واقعية وعملية، فيما تراجع ذلك الضجيج والصخب الذي رافق التحولات الكبرى في مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي، عندما ترك تفكك الاتحاد السوفييتي فراغاً عالميا كبيرا تسبب في بروز البحث عن (القطبية) بشكل حاد. فقامت الولايات المتحدة الأمريكية بطرح قضية (النظام العالمي الجديد -العولمة)، وقضية (المشاركة بدلاً من المنافسة) وقضايا أخرى لإعادة تنظيم العلاقات الدولية الجديدة، ويبدو أن قضية (القطبية) قد تجاوزت المرحلة النظرية لتدخل مرحلة التجربة والتطبيق.

ثانيا- حوار في القطبية:

ربما كان الكاتب العسكري الفرنسي (الجنرال بوفر) هو أبرز من تعرض لقضية قطبية في مجلته الشهرية (استراتيجي) في منتصف عقد السبعينات، وفي مرحلة صول الحرب الباردة ذروة شدتها وقوتها، وتركز الحوار على فرضية مصير القطبية حال تفجر حرب عالمية

فهل كان من المحتمل أن تبقى الحرب محددة بين لقطبين المتصارعين، المعسكر الاشتراكي بقيادة روسيا، والمعسكر الرأسمالي قيادة الولايات المتحدة؟ وهل ستشكل الصين بكل ثقلها العسكري قطبا ثالثا حياديا – أم أنه سينتقل ليندمج في القطب الاشتراكي بحكم الروابط الفكرية الايديولوجية- أم أنه سيقف مع المعسكر الرأسمالي بتأثير ارتباطاته المصلحية وبتأثير المنافسة القطبية؟

وإمكانية صياغة العلاقات القطبية واحتمالات تطورها على شكل معادلات رياضية ونظريات حسابية؛ سرعان ما تساقطت كمثل كل نظريات الحرب الباردة التي كانت تتساقط كأوراق الأشجار عندما تعصف بها رياح الخريف.

والمهم في الأمر هو أن الحوار في القطبية، والذي أثارته نظريات (الجنرال بوفر) قد تسبب في إعادة تقديم تجارب القطبية عبر التاريخ -حيث كانت (الأحادية القطبية) تمارس دورها في حدود مرحلة زمنية واضحة وعلى مناطق جغرافية معينة- بالاقتران مع ظهور إمبراطوريات العالم القديم وزوالها – كالإمبراطورية اليونانية فالمصرية فالرومانية فالعربية الإسلامية وهكذا…

وتبين بوضوح أنه من الصعب إجراء دراسة مقارنة تحدد الروابط المشتركة بين تجارب العالم القديم والحديث أيضاً- حيث بقي دور (القطبية) محدداً بسبب بقاء عدد من الأقطاب الأخرى المنافسة، والتي لم يكن وجودها يتعارض مع نظرية (الأحادية القطبية). إذ كانت العلاقات بين الأقطاب قائمة على (الحوار) و (المحاكاة – التقليد). ليس في مجال العمل العسكري فقط؛ وإنما في كل المجالات، ولقد برهنت التجربة القطبية عبر التاريخ أن القضية ليست أكثر من قضية تنظيم علاقات إقليمية أو قارية- أو حتى دولية في حدود ضيقة تحت هيمنة القدرة العسكرية المتفوقة لقطب من الأقطاب؛ ولمصلحة ذاك القطب المتفوق، مع الحرص دائما على الحد من قدرات الأقطاب الأخرى- أو الأقطاب المنافسة- إن لم يكن بالمستطاع تدميرها والقضاء عليها.

ولعل تاريخ الاستعمار البريطاني -بمجموعه وبكل تفاصيله- لم يكن أكثر من قصة صراع (القطبية) لتكوين الإمبراطورية البريطانية العالمية. ومع تجاوز كثير من الأحداث المتشابهة والمتطابقة والمكررة كما في قصة الحروب النابليونية- يمكن العودة إلى دور بريطانيا في تقسيم مناطق النفوذ في العالم على أقطار القارة الأوروبية، بحيث تحتفظ بريطانيا دائماً ب القطب المهيمن والمسيطر، مثال: -إطلاق إنكلترا حرية العمل لروسيا القيصرية- في آسيا الوسطى ونهاية بالشرق الآسيوي، ولكن بشرط عدم تجاوز روسيا لحدود المصالح البريطانية، غير المحددة دائما وغير الواضحة- فإذا تجاوزت ذلك كانت الحرب. وكذلك تعاون روسيا وإنكلترا وفرنسا ضد الدولة العثمانية في حربها على أرض اليونان – حيث تفجرت الثورة اليونانية سنة ١٨٢٢ بتحريض من روسيا- وفي سنة ١٨٢٧ تقدمت أساطيل الدول المتحالفة (روسيا وإنكلترا وفرنسا) ودمرت الأسطول العثماني- المصري في مياه نافاران اليوناني- وأنهت بذلك الحرب.

ولكن عندما تجاوزت روسيا الحدود التي رسمتها لها بريطانيا، قامت إنكلترا وفرنسا بشن الحرب على روسيا بالتعاون مع الدولة العثمانية (في حرب القرم ١٨٥٣- ١٨٥٦) م، وبعد ذلك؛ وعندما اصطدمت فرنسا ببريطانيا بسبب رغبة فرنسا باستعمار المغرب، اتفقت الدولتان سنة 1911 على أن تقوم فرنسا باحتلال المغرب مقابل إطلاق يد بريطانيا في مصر والسودان (ضاربين عرض الحائط بقرارات مؤتمر الجزيرة- الأندلس – الذي عقد سنة م1906، وتم فيه الاتفاق بين ألمانيا والدول الغربية على حماية استقلال المغرب والمحافظة عليه). ومقابل ذلك حصلت ألمانيا على (جائزة ترضية) بمنحها قسماً من الكونغو الفرنسي، كما حصلت إيطاليا على حرية العمل في برقة وطرابلس (ليبيا). ولم تكن اتفاقات (سايكس بيكو) ومعاهدات (كوتاهية) وسواها والتي وزعت أسلاب الدولة العثمانية إلا نموذجاً للاتفاقات الدولية التي تنظمها (الدولة القطبية – أو الدولة المهيمنة).

ولعل مما يبرز دور (القطب) في الأحداث العالمية هو تفجر الحربين العالميتين الأولى والثانية إذ تؤكد كل الأحداث والاتفاقات أن بريطانيا كانت هي الدولة الوحيدة التي تستطيع منع وقوع الحربين؛ والقضاء على عوامل تفجرهما؛ فليس من الغريب أن تعتبر بريطانيا أنها المسؤولة عن كل ما نتج عن الحربين العالميتين من نتائج مروعة. ولو أنه ما من أحد يستطيع مقاضاة بريطانيا على دورها في الأوضاع العالمية المتفجرة. ويظهر ذلك بوضوح أن الدور الرئيسي (للقطبية) هو تنظيم العلاقات التي تسمح بتفجير الحروب أو تحقيق السلام على قاعدة مصلحة القطب الحاكم. وهو ما كان قد أكده (نابليون بونابرت) في منفاه في (سانت هيلانة) عندما قال: ” إن إنكلترا مستعدة لإشعال نار الحرب من أجل صفقة تجارية واحدة “. وأن بريطانيا تنشر أساطيلها في كل البحار والمحيطات؛ لتحتفظ بقدرتها البحرية المهيمنة، وهي مستعدة للقضاء على أية قوة منافسة، وكان الجهد البحري البريطاني المنظم لتدمير القدرات البحرية الأوربية المنافسة بداية من اسبانيا ثم فرنسا ونهاية بألمانيا هو الذي ضمن لبريطانيا القدرة على البقاء في موقعها ( القطبي ) طوال ليل الاستعمار الغربي- وتظهر هنا نقطة هامة- وهي أن عصر الحرب الباردة قد استند في قاعدته على تدمير ( القطب المنافس ) فالولايات المتحدة- ومن خلال تنظيم حلف شمال الأطلسي والأحلاف والتكتلات المماثلة، قد استطاعت فرض طوق من الحصار على الاتحاد السوفييتي السابق.

وكانت حجة الحرب هي (القضاء على المعسكر الاشتراكي) المنافس (للمعسكر الرأسمالي)، وهذا هو ما أعطى الحرب مذهبها العقائدي الذي وصل إلى حد (القداسة المذهبية أو الدينية)، ولهذا لم يكن غريباً أن تظهر توقعات في كل عواصم العالم بتفكك الأحلاف والتكتلات التي انتظمت في عصر الحرب الباردة، ولكن ما حدث هو توسيع حلف شمال الأطلسي حتى حدود روسيا الاتحادية، والاستمرار في محاولات إضعاف القدرة الروسية- القتالية والصناعية والاقتصادية- بحيث تزول عنها صفة (القدرة المنافسة). فهل يعني ذلك إلا تأكيد حقيقة واحدة وهي أن عصر الحرب الباردة قد استند إلى قاعدة ثابتة هي القضاء على (قطب منافس) وليس القضاء على مذهب اقتصادي ودليل ذلك هو تعاون القلاع الرأسمالية الغربية والأمريكية مع (الصين) وسواها. رغم احتفاظ هذه الدول بطرائقها الاشتراكية. ويعني ذلك أيضاً أن جهود الغرب – الرأسمالي – لمحاربة الاشتراكية لم تكن إلا بهدف خلق عالم على صورة الغرب الأوروبي أو عالم متجانس بحسب التعبير الأمريكي- مما يجعل محاربة الاشتراكية مجرد وسيلة ، وليست غاية أما الغاية الحقيقية فهي ( القضاء على المنافسة القطبية )، وعلى هذا ، فإن محاولات بحث ( الجنرال بوفر ) في مجال التعددية القطبية ، إنما كان انعكاسا حقيقيا لمخاوف الغرب من اندماج الأقطاب الاشتراكية ( بزعامة موسكو وبكين ) فـي قـطب واحـد مـقـابـل قطب المعسكر الرأسمالي وهذا مما يجعل من الصعب؛ إن لم يكن من المحال وصول الصراع إلى مرحلة الحسم فتتحول احتمالات الحرب بذلك إلى تدمير متبادل، ولن يحقق أي من المعسكرين أهدافه في القضاء على منافسة القطب المقابل.

فكان في ذلك الرهان الكبير الذي اعتمده الغرب في تقديم كل ما ترغب (بكين) في الحصول عليه من مساعدات اقتصادية وعلمية وانفتاح تجاري ودعم سياسي ومعنوي. ولم يكن من مصلحة الصين التضحية بكل هذه الإغراءات طالما أن نهاية (القطبية) في ظل التسلح بأسلحة التدمير الشامل ليست واضحة ولاهي محددة المعالم، وطالما أن قضية الخلاف العقائدي مع موسكو لا تتجاوز حدود بعض الاستفزازات الهامشي- على امتداد الحدود الطويلة المشتركة. وطالما أن المنافسة القطبية العقائدية بين بكين وموسكو لم تتجاوز حدود المناقشات العقيمة بشأن نظام من نوع (نظام البانيا آنذاك)

وبإيجاز؛ لقد نجح المعسكر الرأسمالي في تلك المرحلة من منتصف عقد السبعينات في حرمان المعسكر الاشتراكي من تكوين (قطب واحد) يقابل قطب المعسكر الرأسمالي، فتشكل بذلك ما عرف باسم (الثلاثية القطبية). وظهر احتمال لتشكيل أقطاب أخرى- فالهند بثقلها العلمي والديموغرافي –والوطن العربي بثرواته وقدراته (بعد حرب ۱۹۷۳) واليابان بثقلها الاقتصادي وسواها – وتشكل أقطابا لها ثقلها في كفة الموازين الدولية.

 وتركزت الدراسات والأبحاث على عوامل القوة في الوطن العربي، والتي تؤهله لتشكيل القطب الرابع أو الخامس)، وبدأ البحث في تحديد علاقات هذه الأقطاب بعضها ببعض في حال تفجر حرب عالمية (سواء بالأسلحة التقليدية أو بأسلحة التدمير الشامل). وكان من المهم بالنسبة لصراع القطبية الثنائية ( بين موسكو وواشنطن ) هو الوصول إلى نوع من العلاقة المحددة التي تفسح المجال أمام أحد احتمالين فإما أن تندمج الأقطاب المتنافرة في أحد الـقـطـبـيـن الـرئـيـسـيـن- وإما أن يبقى الصراع محدداً بين الأقطاب ( التكتلات والأحلاف ) فيما يتم تحييد بقية الأقطاب بإبعادها عن ( الثقل القطبي)، ويمكن على ضوء هذه العلاقة القطبية استيعاب كل العوامل التي فجرت الحروب والصراعات المحدودة بداية من القرن الإفريقي ونهاية بأفغانستان – باعتبار أن هذه الحروب هي المقياس لنجاح أو فشل ( الاستراتيجية القطبية ) للقوى المتصارعة على الحلبة الدولية.

لقد كان الصراع على القطبية -طوال عصر الحرب الباردة -هو البرهان الواقعي والعملي على اقتران القطبية بسياسات الحروب بكل أنواعها وليست العالمية وحدها- غير أن هذا الصراع الذي تركز على محور الحرب لم يكن منعزلاً ولا مستقلا عن بقية العوامل المكونة للحرب وعلى سبيل المثال- فإن مشروع غزو الفضاء ( أو حرب النجوم ) ، والذي برز في مطلع عقد الثمانينات – قد اكتسب أهميته من خلال دعمه ( للقطبية ) التي تخوض حربها على صعيد التقانة في محيط عالمي ، وكان سباق التقانة ( والثورة في العمل العسكري ) هو سباق ذو أبعاد تتجاوز حدود العمل العسكري لتشمل ( ثورة الاتصالات ) و(ثورة المعلوماتية)، وكان التطور في إدارة الحرب هو استثمار لكل ما أمكن تحقيقه من إنجازات علمية، وفي التقانة ( ذات الاستخدام المزدوج )، والتي حققت بصورة عملية متطلبات (العولمة) مما برهن على أن هذه (العولمة) لم تكن إلا إنجازا لصراع القطبية – إذ بات معروفاً أن الصراع والمنافسة على القطبية قد سمحت للدول الكبرى بالوصول إلى درجات متقاربـة فـي آفـاق الـتـقـانـة ( روسيا وأمريكا وأوروبا واليابان ووصولاً إلى الهند وباكستان ).

وإن امتلاك أمريكا لمفاتيح التقانة في كثير من المجالات، وبخاصة في الاتصالات والمعلوماتية لا يعني أبدأ ابتعاد الدول الكبرى المتنافسة على قمة القطبية عن متابعة الجهد للوصول الى المواقع المتفوقة، ولو في مجالات محددة كمثل ما تفعله الصين وروسيا الاتحادية ودول أخرى بعد انتهى عصر الحرب الباردة وظهرت تحولات جذرية في الصراع القطبي.

 ثالثا- ما بعد عصر الحرب الباردة:

 لقد شكلت مرحلة ما بعد انتهاء عصر الحرب الباردة، تجربة مثيرة في مجال القطبية والعلاقات الدولية؛ ولعل من أبرز ظواهر تلك التجربة التاريخية – كما هو معروف – ما يلي:

1- اعتراف كل الأقطاب الكبرى (روسيا الاتحادية والصين وأوروبا) بأن أمريكا أصبحت هي القطب الوحيد الذي يتربع على عرش العالم – دون منافس- حتى حين.

2- ومع هذا الاعتراف- انفلتت الأقطاب من عقالها- وبدأت قبضة السيطرة الأمريكية في التراخي، بتأثير الضغوط المتصاعدة من جانب كل الأقطاب الحليفة والمنافسة. ثالثاً- لقد استبعد خيار (الحروب الـعـالـمـيـة) و (الـحـروب بأسلحة التدمير الشامل)، وكان ذلك يعني ببساطة (تحييد) دور القطب العالمي في صنع الحروب وتفجيرها واستثمارها.

3- أظهرت الأقطاب المنافسة رغبة واضحة وأكيدة لتوسيع هامش حرية عملها السياسية والعسكرية وما يتبع ذلك من حرية اقتصادية على الصعيد العالمي. وذلك من خلال ابتداع مشاريع سلمية تبادلية (المشاركة من أجل السلام).

4- دعم العلاقات الدولية الجديدة على اتجاه إقامة تكتلات منافسة للقطبية الأحادية – فأقامت روسيا والصين تحالفهما الاستراتيجي (منذ العام ١٩٩٤) بهدف واضـح هـو (خـلـق وتـكـويـن أقـطـاب تـحـد مـن هـيـمـنـة الأحادية القطبية الأمريكية). وهو ما فعلته أوروبا أيضاً من خلال دعم التعاون (الألماني -الفرنسي) داخل الاتحاد الأوروبي.

5- ومع انحسار الدور العسكري (للأقطاب المتنافسة والمتصارعة على قمة العالم) عاد الصراع إلى طبيعته الحقيقية، والتي تعتبر أن الصراع الاقتصادي هو جوهر كل صراع – قاري أو عالمي. ولقد تم تأكيد هذه الحقيقة سواء من خلال الأزمات الاقتصادية التي أخذت أحيانا شكل حرب حقيقية بين أوروبا وأمريكا، وبين اليابان وأمريكا، كما أخذت في حالات كثيرة شكل حرب غير معلنة.

إذ أعلنت أمريكا صراحة أنها قد ارتكبت أخطاء كثيرة عندما لم تظهر الاهتمام الكافي بشؤون القارة الإفريقية -وأنها ومنذ منتصف عقد التسعينات سوف تضـاعـف جـهـودهـا لـدعـم دورها السياسي والاقتصادي والعسكري في القارة الإفريقية – (ومن هنا ظهرت للوجود تنظيمات الجيش الإفريقي لدعم الأمن في القارة).

6- لقد وقعت في سنوات ما بعد عصر الحرب الباردة حروب كثيرة تمت ترجمتها على أنها (تصفية لموروث عصر الحرب الباردة- أو تصفية حسابات بين الدول القطبية).

وكانت حرب كوسوفو -من بين هذه الحروب -هي الحرب الوحيدة التي برز فيها دور (الأحادية القطبية) إذ كانت أوروبا تحرص منذ البداية على التعامل مع (قضية كوسوفو) على أنها قضية أوروبية لا علاقة للولايات المتحدة الأمريكية بها، ولما عجزت السياسات الأوروبية عن تسويتها: وظهرت حتمية الحل العسكري- كان الدور الأمريكي ومن خلال تنظيم حلف شمال الأطلسي وسيلة أمريكا لإقناع حلفائها الأوروبيين بحاجتهم للقطب الأمريكي- وعجزهم عن منافسته حتى في قضايا الأمن الأوروبي.

7- أفادت الأقطاب المتنافسة (روسيا والصين وأوروبا) من سنوات ما بعد عصر الحرب الباردة لتطوير تقانات نوعية (الطيران والذخائر دقيقة التوجيه والأسلحة الصاروخية المضادة للصواريخ الباليستية ومشاريع غزو الفضاء … إلخ). وأدركت أمريكا في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون -أن معاهدة (I.B.M ١٩٧٢) قد أفادت الأقطاب المنافسة في حين أنها حرمت أمريكا من تطوير قدراتها. ولهذا ظهرت محاولات تعديل هذه المعاهدة- واستعادة مشاريع غزو الفضاء (أو حرب الكواكب). غير أن مقاومة الأقطاب لهذا الاتجاه أقنعت (كلينتون وإدارته) بتأجيل هذا المشروع وعدم التعامل معه- وترك القطبية للإدارة الأمريكية القادمة (إدارة جورج بوش)، وهذا ما يفسر إصرار الرئيس الأمريكي بوش على إلغاء معاهدة ۱۹۷۲- وبناء الدرع الصاروخي.

8- على الرغم مما حققته الإدارة الأمريكية في سنوات ما بعد عصر الحرب الباردة من نجاحات كبيرة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا علاوة على أوروبا إلا أنه كان من الواضح أن حظها من النجاح على أرض القارة الآسيوية كان محدوداً -أو معدوما- لأسباب كثيرة منها:

  • وقوف أمريكا إلى جانب (إسرائيل) مما وضعها في موقع العداء من العرب والمسلمين.
  • وقوف أمريكا ضد إيران التي كانت تحظى بدعم روسي – بالدرجة الأولى لبناء قدراتها    الدفاعية، وإقامة مفاعلات نووية.
  • وقوف أمريكا ضد كوريا الشمالية بسبب مقاومتها التقليدية للهيمنة الأمريكية؛ وبحجة تسلح كوريا الشمالية (بالأسلحة النووية والأسلحة الصاروخية).
  • إقامة محور بكين -موسكو المضاد للقطبية الأمريكية الأحادية -على الرغم من كل البيانات الروسية -الصينية بأن التحالف الاستراتيجي بينهما ليس (مضادا لأحد). وقد زاد من خطر هذا المحور- انضمام (الهند) إليه تحت مظلة التحالف الاستراتيجي مع الهند، وبإيجاز شديد – كانت القارة الآسيوية بصورة عامة خارج السيطرة الأمريكية؛ وكان ذلك مثيرا لقلق الأمريكيين.

9- لقد كانت الحرب القطبية غير المعلنة وغير الرسمية؛ واضحة في كل أرجاء العالم، وكانت هذه الحرب موجهة ضد الأحادية القطبية الأمريكية – ولتحقيق هدف ثابت ومحدد، وهو الحد من حرية العمل الأمريكية في كل المجالات، وبخاصة في مجال العمل العسكري والقدرة العسكرية الأمريكية؛ وقد أفادت الأقطاب المنافسة -جميعاً من الأخطاء الأمريكية، وحتى من السلبية الأمريكية لتغذية مشاعر العداء ضد السياسات الأمريكية وضد الممارسات الأمريكية، وكان ذلك وضعاً غير مريح أن تقف أمريكا في موقع العزلة العالمية رغم امتلاكها للقدرة العسكرية المتفوقة ، وهي القدرة التي لا يمكن استخدامها ضد الأقطاب المنافسة، إلا في حال اقتحام المجهول بتفجير حرب عالمية لم تكن الأقطاب المنافسة مستعدة لقبولها أو مجابهتها.

وهكذا؛ فإذا كانت الأقطاب المنافسة لا ترغب- أو لا تستطيع في الظروف الراهنة- الدخول في مجابهة مباشرة مع الأحادية القطبية -الأمريكية- فإنها ترغب وتستطيع التعامل مع الأحادية القطبية باستخدام (استراتيجية وخز الإبر الصينية).

فبعد توحيد أوربا- أصبحت تمتلك قدرات بشرية تزيد على ضعف عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية؛ والفارق في التقانة بين أوروبا وأمريكا هو فارق غير كبير ولا خطير؛ فإذا مـا الـتـقـى القـطـبـان الـروسـي والأوروبي على صعيد التقانة والاقتصاد فإنه لن يكون للقدرة العسكرية الأمريكية أيه أهمية؛ فكيف إذا انضم القطب الصيني الذي يطمح لمنافسة القطب الأمريكي بعد فترة وجيزة؟

رابعا- القطبية من خلال الحرب:

لا ريب أن قضية اقتران (القطبية) بالحرب قد ارتكزت في قاعدتها إلى (ثمن الحرب) فالحرب في مقدماتها وتطوراتها ونتائجها قد تحمل الدمار للعابثين بنار الحرب، وتكفي نتائج الحربين الأولى والثانية برهاناً تاريخياً ثابتاً – على أن قضية ( ثمن الحرب ) لابد من أن تتحكم بكل ما يتعلق أو يتصل بسياسات الحروب – ومن الأقوال الشائعة والمعروفة أن أوروبا بصورة عامة- وبريطانيا منها بصورة خاصة ما كانت لتزج العالم في الحربين لو أنها كانت تتوقع أن تؤدي نتائج الحرب إلى انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية التي استمرت في حكم العالم واستنزافه طوال أربعة قرون على الأقل. وهنا وعلى ضوء ما حدث من تطورات قطبية في أعقاب عصر الحرب الباردة يمكن التساؤل:

هل (ثمن الحرب) هو الذي يباعد بين الأحادية القطبية والتعددية القطبية؟ وبوضوح أكبر هل إن قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على احتمال نفقات الحرب وأعبائها هي التي تدفعها لقبول مجازفات الحرب؟ وهل ضعف بقية الأقطاب أو عدم قدراتها على احتمال أعباء الحرب ونفقاتها هي التي تدفعها لمقاومة سياسات الحروب؟

 قد يكون من المناسب التوقف عند بعض النقاط الموجهة للأطراف القطبية. ومنها:

1- إن روسيا والصين وأوروبا -بمجموعها- عرفت الحروب العالمية وأهوالها وكوارثها، وقد دفعت ثمناً غالياً من دمائها وثرواتها- وحتى وجودها- في أتون الحرب وهي تعرف أيضاً مدى ما وصل إليه تطور التقانة – بما في ذلك أسلحة التدمير الشامل- مما قد يحول الحرب إلى كوارث حقيقية قد يصعب مسبقاً تقويم حجمها أو نتائجها. ومقابل ذلك- كان (ثمن الحرب) الذي دفعته أمريكا زهيدا جدا بالمقارنة مع ما حققته من مغانم كبيرة ومكاسب متنوعة -مما شكل إغراء قويا لمتابعة سياسة الحروب. وقد يشكل ذلك قيداً للسياسات القطبية العالمية التي تصطدم بالقطبية الأمريكية.

2- لقد شكلت حرب الخليج الثانية ( تحرير الكويت ١٩٩١ ) ثم تجربة الحرب ضد الإرهاب في سنتها الأولى ( ۲۰۰۲ ) مكاسب كبيرة – قدرت بالنسبة لحرب تحرير الكويت بأكثر من ١٢٠ مليار دولار نفقات تقاضتها أمريكا من دول الخليج بالإضافة لأكثر من ١٢٠ مليار دولار ثمناً لصفقات الأسلحة التي أعقبت الحرب ، والتي تم عقدها ( أو فرضها ) على دول الخليج بصورة عامة – وربما كان ذلك هو الحافز القوي الذي دفع صانعي القرارات الأمريكية لاحتلال منطقة الخليج عسكرياً – وإقامة القواعد على أرضها- مما يضمن لها الوصول إلى ( ثمن الحرب ) بدون احتمال أعباء الحرب (أو ما يمكن وصفه بتحقيق أهداف الحرب بدون حرب).

3- يضع أصحاب القرارات في البنتاغون والبيت الأبيض (ثمن الحرب) في مقدمة اهتماماتهم عند اتخاذ القرارات العسكرية، فهم يوزعون أعباء الحرب ونفقاتها على الحلفاء بما يتناسب وقدرات هؤلاء الحلفاء، كما يستثمرون قدراتهم السياسية والعسكرية لتنفيذ عمليات (الحرب بالوكالة) كزج باكستان بكل ثقلها ضد (طالبان والقاعدة)، وهذا مما يخفف إلى حد كبير من أعباء الحرب ومن أخطار نتائجها. وكانت تجربة (حرب فيتنام) و (الحرب بين الكوريتين) هي المثال الأكثر وضوحا لنماذج (الحرب بالوكالة). وبذلك تستطيع أمريكا تغذية الحرب بالحرب ومن خلال الحرب وتطور قدراتها العسكرية على حساب إضعاف قوى بقية الأقطاب وتجميدها.

4- إن الأقطاب الكبرى وهي تجابه الأحادية القطبية، لا تقف في حالة (الجمود) التي تحاول أن تعرضها عليها الأحادية القطبية؛ فهي تمتلك بدورها قدرات كبيرة سياسية وإعلامية واقتصادية- ويمكن لها أن تستنزف الأحادية القطبية حتى بدون خوض حرب مباشرة ضدها (وتحقيق أهداف الحرب بدون حرب).

وهذا ما تعرفه الأحادية القطبية جيدا- وهذا سبب حرصها الظاهر على اكتساب الدعم السياسي للدول القطبية (كموقف هذه الدول جميعا من الحرب ضد العراق عند استصدار القرار 1441 من مجلس الأمن). ولا ريب أن استنفار الرأي العام العالمي ضد الحرب التي خططت لها الإدارة الأمريكية ضد العراق لم يكن إلا ثمرة من ثمار جهود التعددية القطبية، والتي برهنت على ما تمتلكه من رصيد معنوي عالمي له ثقله ضد الأحادية القطبية.

5- يبدو بوضوح أن حدود الصراع بين الأحادية القطبية والتعددية القطبية لا يتطابق مع الحدود الجغرافية لهذه الأقطاب، فبينما تتجنب هذه الأقطاب جميعاً تجاوز الخطوط الحمراء للمصالح المتبادلة؛ فإنها لا تجد ضيقا ولا حرجاً في تحقيق اختراقات الدول ذات العلاقة بدرجات متفاوتة مع تلك الأقطاب، وهناك اختلاف واضح لدى الأقطاب الدولية في تعاملها مع الدول (التي يمكن وصفها بمتوسطة الحجم أو الصغرى).

إذ بينما تعتمد الأحادية القطبية (أمريكا) على أسلوب القوة والضغوط المختلفة على الدول المناوئة لسياساتها كدول محور الشر أو الدول المارقة، والوصول في ذلك إلى حد شن الحرب.

تمارس الدول القطبية الأخرى سياسات مضادة فالدعم الروسي للهند وإيران. والدعم الصيني والروسي لنظام (بيونغ يانغ) حتى في حدود تختلف عما كان عليه الوضع أثناء الحرب الكورية الأولى (1950-1953). ومحاولة منع أمريكا من شن حرب على العراق، كل ذلك مما يؤكد أن هذه الدول (المارقة بحسب الوصف الأمريكي) ستكون ميادين الصراع بين الأحادية والتعددية القطبية، مما حمل على الاعتقاد في أوساط الفكر السياسي العسكري في العالم؛ بأن حروب المستقبل ستنطلق من أرض دول قد تكون بعيدة عن كل الأقطاب – من الناحية الجغرافية- وبذلك تكون مثل هذه الحروب قادرة على تفجير حروب قارية أو عالمية (كما كانت البوسنة والهرسك سببا مباشرا للحرب العالمية الأولى – وكمثل ما كان الممر البولوني سببا مباشراً للحرب العالمية الثانية).

6- تبقى الدول (غير القطبية) إذا ما جاز التعبير – وهي الدول التي لا تمتلك مطامع بالسيطرة على أي من الأقطاب- ذات قدرات كبيرة للمحافظة على التوازنات الدولية، أو تفجير تلك التوازنات، وليس هناك من ينكر دور (إيران) في إحداث شرخ عميق في العلاقات الفرنسية الأمريكية (عندما عقدت إيران مع شركة توتال الفرنسية في سنة 1997 صفقة بمليارات الدولارات)، وكذلك عندما دعمت الهند علاقاتها القوية بروسيا في مواجهة النفوذ الأمريكي المتعاظم على الجبهة الآسيوية (على التعاون الأمريكي -الباكستاني). وهذه الدول (غير القطبية) هي التي تمثل (هامش الأرض) الذي يجب له أن يغذي (قلب الأرض) بالقدرات وبالدم اللازم للحياة- أو هي التي تمثل (مناطق النفوذ) بالنسبة لمفاهيم الأنظمة الاستعمارية القديمة، وسواء كانت الدول غير القطبية ممثلة للنظريات الـجـيـواسـتـراتيجية الحديثة (الأمريكية) أو كانت ممثلة للنظريات الاستعمارية القديمة؛ فإن النتيجة تكاد تكون متطابقة، وهي أنها قد تكون ضحية الصراعات بين الأحادية القطبية والتعددية القطبية، ولا يعني ذلك حرمانها من الخيارات التي تسمح لها بالمحافظة على وجودها أو الدفاع عن مصالحها، إذ يبقى هناك هامش للتحرك السياسي والعسكري قـابـل لـلـتـوسـع بحسب مـجـموعة العوامل المكونة للصراع- وبحسب تطور الأوضاع القطبية.

7- لقد اتفقت نتائج حرب الخليج الثانية (1991)، وحرب كوسوفو (۱۹۹۹)، والحرب العالمية الثالثة (أو الحرب ضد الإرهاب ۲۰۰۱ -۲۰۰۲) على تأكيد حقيقة واحدة وهي أن الأحادية القطبية -الأمريكية- تسعى من خلال تفجير الحروب للإفادة من تفوقها العسكري حتى تضع بقية الأقطاب المنافسة ضمن حجم معين (تصغير حجمها) عبر تقييد حريتها السياسية والعسكرية والاقتصادية مع الدول (غير القطبية).

وهنا السؤال: هل ستتمكن هذه الأقطاب من ممارسة دور قطبي مميز في تنظيم العلاقات الدولية؛ أم سيقتصر دورها على المعارضة السلبية؟

خامسا- مصير الأقطاب:

يظهر مما سبق أن مصير الأقطاب سيبقى وثيق الصلة بالحروب وتطوراتها، إذ يبقى هناك تلازم بين تطور علاقات الأقطاب بعضها ببعض (الأحادية منها والتعددية)، وبين اندماج هذه الأقطاب في قطب واحد أو تباعدها في تشكيل عدد من الأقطاب، فالأقطاب مثلها كمثل الحديد، لا تتشكل ولا تنصهر إلا على نار لاهبة كنار الحرب، وهذا مما جعل كل الأبحاث والدراسات التي ظهرت أيام عصر الحرب الباردة وما بعد ذلك، لا تتجاوز حدود ( الاحتمالات الواسعة ) والتوقعات غير الدقيقة أو العامة جداً- وقد يكون ذلك أمراً طبيعياً ومتوقعاً، فالحوار بين الأحادية القطبية وبين التعددية القطبية إنما يمثل أعلى وأرقى أنواع الحوار السياسي والعسكري، مما يجعله بأنه الحوار المميز بالتعقيد وعدم الوضوح ووفرة البدائل عند التعامل مع أية قضية عالمية أو دولية ذات علاقة بالقطبية، ولقد تميزت العلاقات الدولية منذ أيام الثورة الصناعية- في القرن السابع عشر- بأنها علاقات قائمة على المصالح -وربما المصالح وحدها- وقد زاد تأثير هذا العامل وضوحاً في الأزمنة الحديثة؛ فمصير الأقطاب بالتالي مرتبط بهذه المصالح. وهل هناك ما هو أكـثـر تـنـافـراً وأشـد تـعـارضـاً مـن مصالح الأقطاب المعاصرة سواء في مجال علاقاتها المتبادلة أو في مجال علاقاتها مع الدول غير القطبية؟

إذن فقد يكون من الخطأ الكبير التعامل مع التعددية القطبية على أنها جبهة متماسكة أو جبهة واحدة في مواجهة الأحادية القطبية، وهناك شواهد كثيرة لا يمكن تجاوزها وإغفالها – فعلى الرغم من إقامة التحالف الاستراتيجي بين بكين وموسكو منذ سنة 1994 وعلى الرغم من الجهود المبذولة بعد ذلك لتطوير هذا التحالف على قاعدة (التعددية القطبية) إلا أن واشنطن بقيت على علاقة خاصة ومميزة سواء مع موسكو أو مع واشنطن في مجالات التقانة، كما في الاقتصاد والعلوم وحتى السياسة.

ولكن ذلك لا يعني أيضا اندماج القطبين الآسيويين (موسكو وبكين) في القطب الأمريكي؛ حيث تبقى هناك مصالح كثيرة مختلفة ومتباعدة أيضا- ويبقى هناك تباين في قواعد التعامل مع القضايا الدولية، والأمر مماثل بالنسبة لعلاقات واشنطن بالقارة الأوروبية وأقطابها، وكذلك علاقات الأقطاب الأوروبية بالأقطاب الآسيوية.

وتسعى (الأحادية القطبية)، والتي تمثلها السياسات العسكرية الأمريكية إلى استبعاد التناقضات بين الأقطاب وتحقيق التقارب عبر إعطاء الأفضلية لعوامل التقارب الممثلة بالمصالح، وذلك بهدف خلق أو تكوين عالم أكثر تماثلاً وأقل تناقضاً.

وهنا يظهر السؤال المهم، وهو: هل هذه المساعي الأمريكية بعيدة عن التناقضات في حد ذاتها أم أن ما يتم طرحه من سعي لإزالة التناقضات وتحقيق التماثل هو مجرد غطاء لتجاوز المقاومات التي تمثلها التعددية القطبية؟

أليس الموقف الأمريكي المتناقض من قضيتي (كوريا الشمالية والعراق) هو مثال واضح للتناقضات السياسية الأمريكية؟

وهل هناك تناقض أكثر وضوحاً من ازدواجية المعايير الأمريكية في التعامل مع القضايا العالمية التي تتعلق بحقوق ومصير الشعوب؟

هذه القضايا وضعت السياسة الاستراتيجية بكاملها وبكل أبعادها في متاهة الازدواجية والتناقضات التي يصعب على أي إنسان في العالم فهمها أو استيعابها؟

المهم في الأمر هو أن مستقبل القطبية ومصيرها هو قضية أشد تعقيدا مما نتصور أو بحسب ما تحمله سطور (التحالفات الاستراتيجية).

ولكن ما هو دور المجتمعات والدول غير القطبية في تشكل الأقطاب وتطورها؟

وهل يمثل هذا الدور الجانب السلبي في تكون الأقطاب؟

هناك مقولة ربما يعود تاريخها لأزمنة موغلة في القدم تقول:” إن المنتصر في الحرب هو الذي يستطيع الاحتفاظ حتى نهاية الحرب بطلقة لا يمتلكها عدوه “.

وقد برهنت هذه المقولة على صحتها عبر تجارب الحروب حتى الحديثة منها. فالحلفاء لم يحققوا انتصارهم بقدراتهم الذاتية، وإنما بسيطرتهم على ذلك الخزان الهائل من القدرة القتالية في شعوب المستعمرات، ومعروف أن بريطانيا أكثر دولة- استفادت من هذا الخزان الاحتياطي فضمت جيوشها شعوباً من الصين والهند والعرب والأفارقة والاستراليين- وفي كثير من الأحيان اقتصر دور الإنكليز على القيادة، فالاحتياط الاستراتيجي لم يكن في القدرة القتالية البريطانية وإنما كان في الشعوب (غير القطبية). ولكن هل كانت هذه الشعوب سلبية في تعاملها مع الأقطاب آنذاك؟

ألم تتشكل حركة التحرر الصينية في رحم القطب الياباني والقطب البريطاني؟ وهل كانت حرب التحرير في الهند الصينية (فيتنام) أكثر من تمرد شعبي ضد الهيمنة القطبية (الفرنسية)؟

ألم تؤكد كل مصادر الثورة الجزائرية أن اشتراك الجزائريين في الحرب العالمية الثانية هو الذي شكل نواة (جيش التحرير الوطني الجزائري)؟

هل هذه النماذج -وما يماثلها قد برهنت في كل مرة أن الشعوب -أو الدول- غير القطبية هي التي تحدث التغيير في علاقات الأقطاب بعضها ببعض، وهل أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي (السابق) قد اضطلعا- ومن خلال ميثاق هيئة الأمم المتحدة بدور كبير في حركة التحرر العالمي التي مارست دورها في إزالة أقطاب العالم القديم، مما مكنها من الوصول إلى عالم (الثنائية القطبية) بعد الحرب العالمية الثانية؟

وهل كان باستطاعتهما القضاء على تلك الإمبراطوريات ذات الجذور العميقة والمتشعبة في كل أرجاء العالم لولا نهضة وثورة الشعوب غير القطبية؟

لقد عرف أصحاب – أو صانعي القرارات في الدول القطبية حقيقة دور الدول غير القطبية وقياداتها في تنظيم وتطوير العلاقات الدولية، سواء بين هذه الدول بعضها مع بعض أو بين هذه الدول والدول القطبية، وهذا ما يفسر بصورة واضحة حرص صانعي القرارات الدولية علي معرفة تحرك قادة الدول غير القطبية واتصالاتهم ومعاهداتهم واتفاقياتهم، نظرا لتداخل كل هذه الأعمال في صلب القرارات القطبية – وعلى سبيل المثال- فعندما تحاول- بكين وموسكو- نصح الولايات المتحدة بتجنب الصدام مع كوريا الشمالية، فإن ذلك يعني ببساطة أن قادة (بيونغ يانغ) يمتلكون وسائط سياسية وعسكرية واقتصادية تجعل نتائج مثل هذا الصدام غير مضمونة وفي غير صالح الولايات المتحدة الأمريكية.

إذن، فإن الأحادية القطبية لا تتعارض مع التعددية القطبية، فالقضية في جوهرها هي قضية تنظيم للعلاقات الدولية سواء بين الأقطاب بعضها مع بعض أو فيما بينها وبين الدول غير القطبية، في إطار من التوازن الذي من شأنه محاربة العوامل المفجرة للحروب والمثيرة للنزاعات والمكونة للاضطرابات. ولقد عرف التاريخ منذ أقدم العصور أنواع الأقطاب المتعايشة أحيانا والمتصارعة في أحيان أخرى، ولم يكن سقوط الحضارات وزوال الإمبراطوريات إلا نتيجة للصراعات القطبية ولم يكن باستطاعة أية قوة انتحال صفة (الأحادية القطبية) حتى عندما كانت الإمبراطورية البيزنطية في القديم والإمبراطورية البريطانية في الحديث تتحكم بمعظم أرجاء العالم، إذ كانت الأقطاب الأخرى محتفظة بوجودها، ولم تتمكن الأحادية القطبية من إلغاء وجود التعددية القطبية، وهذا ما يؤكد حتمية فشل (الأحادية القطبية الحديثة) إذا ما حاولت القضاء على الأقطاب الأخرى، أو حتى تحديد حجمها وتكييفها بصورة تعسفية أو استبدادية.

ولكن، وبالمقدار ذاته ليس من مصلحة العالم، وقد جاءت التقانة لتمارس دورها في دمج العالم بمجموع متكامل أن تكون هناك تعددية قطبية متنافرة أو متعارضة، ويقضي ذلك بصورة طبيعية إعادة تنظيم العلاقات ليس بين الأقطاب بعضها مع بعض، وإنما بينها وبين الدول غير القطبية، والتي تشكل معظم سكان الكرة الأرضية، والتي يحق لها الدفاع عن وجودها بكل الوسائل حتى لا تكون ضحية الاتفاقات القطبية أو التناقضات القطبية. ولكن إذا لم يتحقق ذلك؛ فستعود التعددية القطبية للصراع المدمر

سادسا- هل تشكل الأزمة بين الغرب وموسكو بداية “نظام عالمي جديد وماهي تداعيات تصاعد الأزمة الأوكرانية على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟

يرى مراقبون أن بوتين يريد استعادة دور الاتحاد السوفيتي السابق على المسرح الدولي إلى موسكو

فقد ظهرت العديد من التحليلات التي تتحدث عن التوتر الحالي بين الدول الغربية وحلف شمال الأطلسي (ناتو) من جهة، وروسيا من جهة أخرى بشأن الأزمة في أوكرانيا، في وقت تلوح فيه نُذر بتوسع التصعيد العسكري في المنطقة.

ويرى عدد من المختصين أن الأزمة تشير إلى بداية تشكّل نظام عالمي جديد، ومحور صيني روسي في مواجهة تحالف غربي بقيادة الولايات المتحدة وحلف الناتو، وظهور لتغيرات جديدة على المسرح الدولي

ويرى آخرون أن روسيا وأوروبا تريدان ضمانات أمنية متبادلة، فموسكو تخشى أن يتوسع حلف الأطلسي باتجاهها، وأوروبا تخشى من ويلات الحرب على القارة.

ومن المعلوم أنه بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم بعد التصويت الشعبي، فرض الاتحاد الأوروبي، ولاحقاً الولايات المتحدة وكندا، المجموعة الأولى من العقوبات – تجميد الأصول وحظر السفر على بعض المسؤولين في روسيا والقرم. ثم لاحقا، أمر وزراء خارجية حلف الناتو بإنهاء التعاون المدني والعسكري مع روسيا. وإذا تصاعدت الأزمة أكثر، فمن المرجح أن يكون لها تداعيات محتملة على بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا، بشكل مباشر من خلال التجارة وغير مباشر من خلال أسعار السلع الأولية.

فروسيا وأوكرانيا منتجان ومصدران زراعيان رئيسيان. وفي عام 2012، بلغت صادرات روسيا وأوكرانيا 11.5% من الصادرات العالمية للقمح، واستأثرت أوكرانيا بأكثر من14% من صادرات الذُرة العالمية (ثالث أكبر حصة على الصعيد العالمي). ومن المحتمل أن يؤدي اضطراب صادرات روسيا وأوكرانيا إلى خفض حجم التجارة على الصعيد العالمي وبشكل خاص لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي واحدة من المنطقتين الأكثر اعتماداً على القمح المستورد (بعد أفريقيا جنوب الصحراء). ويذهب أكثر من 50% من صادرات القمح الروسي إلى مصر يليها لبنان والأردن واليمن، وتعتمد هذه البلدان أيضاً على أوكرانيا للحصول على أكثر من 50% من إمداداتها من القمح والذرة (60% بالنسبة للبنان و50% لمصر)، وفي حال اضطراب المعروض من روسيا وأوكرانيا، فسيتعين على هذه البلدان زيادة وارداتها من مصادر أخرى بأسعار أعلى يمكن أن يكون لها على الأرجح آثار اقتصادية كبيرة.

ويمكن أن يؤثر توقف صادرات روسيا وأوكرانيا من هذه السلع على أسعار السلع الأولية عالمياً. وتوضح بيانات حديثة من البنك الدولي أن أسعار القمح والذرة قفزت مع بداية الأزمة بنسبة (4-6%) وقد يؤدي ارتفاع الأسعار العالمية لهذه السلع الأولية إلى تفاقم العجز في الحسابات المالية والجارية المرتفعة بالفعل في تلك البلدان التي تأثرت مباشرة من الصدمة. وهذا قد يشكل ضغوطاً إضافية على المستويات المرتفعة بالفعل للدين العام. وعلاوة على ذلك، فإن هذه البلدان لديها مساحة ضئيلة للتحرك في السياسات المالية والنقدية كي تواجه التداعيات، لا سيما في حال تحقق السيناريو الأخطر وهو انهيار الصادرات الروسية والأوكرانية.

وحيث أن روسيا هي واحدة من أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم (13% من إنتاج وصادرات النفط الخام على مستوى العالم)، فإن انخفاض صادراتها يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط. وبعد فرض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا، ارتفع سعر خام برنت في شهر مايو/أيار 47 سنتاً إلى 106.92 دولار للبرميل. وترى بعض التقديرات أن ارتفاع الأسعار في حدود 30 دولاراً للبرميل محتمل في ظل سيناريو حدوث صدمة شديدة في العرض. وربما تشهد البلدان المصدرة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لاسيما الكويت والعراق والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران، ارتفاعاً في عائدات صادراتها.

ويتوقع أحدث تقرير للبنك الدولي عن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعنوان الاستفادة من الانتعاش العالمي: طريق شاق وطويل، تسارع وتيرة النمو في المنطقة من 2.6% في المتوسط عام 2013 إلى 4.6% عام 2015، وسوف تبدأ هذه البلدان بالاستفادة من ارتفاع الطلب الخارجي من البلدان المرتفعة الدخل وذلك بسبب الانتعاش الاقتصادي العالمي. إلا أن آفاق الانتعاش الاقتصادي الكامل لا تزال ضبابية إذا ما تفاقمت الصدمات المحلية وكذلك الخارجية بما في ذلك الصراع في أوكرانيا.

             ———————————————————–

مصادر ومراجع البحث:

  • الاعلام الدولي والدعاية، فتحي الإبياري، القاهرة.
  • الاتصال بالجماهير والدعاية الدولية، أحمد بدر، الكويت، دار القلم.
  • السلم المسلح، غاستون بوتول، ترجمة أكرم ديري، محمد المعري.
  • حرب الجاسوسية، د. حمدي مصطفى، دار الوثبة.
  • التجسس العالمي الجديد عبر القضاء والأقمار الصناعية، غراهام بوست.
  • الحرب بين الماضي والحاضر، محمد عبد الفتاح إبراهيم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
%d مدونون معجبون بهذه: