حسن النيفي

باحث وكاتب سوري

الحراك الثقافي للثورة، إلى أين؟

 

غالباً ما تترافق التحوّلات التاريخية التي تخضع لها البلدان والشعوب مع مراجعات نقدية تقوم بها النخب الفكرية والثقافية، وتشمل هذه المراجعات معظم تجارب الماضي، سواء السياسية منها أو الاقتصادية والاجتماعية، ولعله من الطبيعي في هذه الحالات أن تنشأ معارك فكرية طاحنة يكون ميدانها الفلسفة وعلم الاجتماع والفنون والاقتصاد إلخ، وهذا كلّه – بلا شك – دليل حالة صحية وسليمة، إذ لا بدّ أن يفضي الصراع بين ثقافات ومفاهيم الحقب المتلاحقة إلى مُنتَج جديد تحتاجه البشرية لتستطيع مواكبة الحياة وتطورها الذي يُنذر دائماً بما هو جديد. ربما كانت الثورة الفرنسية ( 1789–1799 ) هي الحدث التاريخي الأكثر نصاعةً ووضوحاً على حدوث مخاض ثقافي تجسّد فيه صراع كبير بين قيم التنوير التي بشّر بها الفلاسفة والمفكرون والفنانون وبين الموروث الديني المتمثل بالكنيسة ورجال الدين، وعلى الرغم من السيرورة القاسية للثورة الفرنسية – على المستوى الاجتماعي والأمني – إلّا أنها أفضت بالنتيجة إلى مُنتج نهضوي كوني لم يتوقف تأثيره بحدود الجغرافية الفرنسية، بل امتد إلى جميع أنحاء المعمورة.

مما لا ريب فيه أن ثورات الربيع العربي التي انطلقت شراراتها الأولى أواخر العام 2010 ، لم تكن تجسّد انتفاضات محلّية محكومة بالمسببات الخاصة في كل بلد فحسب، بل هي علاوة على ذلك، تجسّد مرحلة تحوّل تاريخي بات واجب الحدوث، نظراً لنضوج جميع مسبباته الاجتماعية والإقتصادية والسياسية، ذلك أن مجمل القيم السياسية التي كرّستها مرحلة ما بعد الاستقلال، وأعني شكل أنظمة الحكم وطبيعة ممارساتها السلطوية، إضافة إلى طبيعة وبنى مؤسسات الدولة وأدوارها الوظيفية لم تعد قادرة على استيعاب التطلعات الشعبية التي باتت تدرك أنها جزء من عالم كوني تسوده قيم وحقوق إنسانية مشتركة، ومن حقها أن تحوز على حقوقها في العيش الكريم والأمن والاستقرار والديمقراطية والمساواة. وبموازاة ثورات الربيع العربي شهدت الأوساط الثقافية – وما تزال – حراكاً ملحوظاً، ذلك أن المتغيرات التي طرأت في بلدان الثورات أحدثت هزّة عنيفة لمجمل الرواكد الإيديولوجية والثقافية، علماً أن هذا الحراك الفكري كان على تفاوت بين بلد وبلد آخر، إلّا أنه يمكن الذهاب إلى أن الحالة السورية كانت المناخ الأكثر تجليّاً لهكذا حراك، ربما تعود أسباب ذلك إلى فترة طويلة من الركود الفكري والثقافي والسياسي عاشها السوريون في ظل الإستبداد والقمع الأمني ومنهج الإقصاء الذي لم يكن يتيح الظهور إلّا لصوت السلطة ومن والاها، الأمر الذي راكم احتقاناً كبيراً سرعان ما انفجر عند أول فرصة شعر المواطنون فيها أن سلطان الخوف بدأ ينزاح عن النفوس.

شهدت السنوات العشر الماضية من عمر الثورة إقبالاً ملحوظاً من جانب النخب السورية على الحوار والنقاش عبر ندوات ومحاضرات وورشات عمل تطال موضوعات ذات صلة بمفهوم الهُويّة والوطنيّة والعقد الاجتماعي والدستور والعدالة الإنتقالية والسلم الأهلي وكل ما له صلة ببناء الدولة الحديثة، ولئن كان هذا الضرب من الحراك يحمل في صميمه توجها سليماً بل موجباً، إلّا أن المُنتَج الفعلي لهذا المسعى كان ضعيف المردود، أو على الأقل لم يرق بعدُ إلى بلورة مشروع وطني يمكن أن يكون مظلة لعملية التغيير التي ينشدها السوريون، بل لعله من المؤسف أن يفضي هذا الحراك بعض الأحيان إلى تعزيز حالة الاحتقان وتعميق الشروخات السابقة، بل وفتح أبواب لخلافات جديدة تتراكم فوق ما هو موجود بدلاً من أن تسهم في تجاوزه، ولئن كان من العسير الإحاطة بجوانب هذه الإشكالة بشموليتها في هذه المقالة الوجيزة، فإنه يمكن الوقوف عند مسألتين اثنتين:

1 – غالباً ما جسّدت مسألة ( التأصيل ) ضرورة منهجية لدى معظم المتحاورين، ومن هنا كان لا بدّ من العودة إلى الماضي لتقصّي جذور الأفكار والمفاهيم المراد بحثها ومناقشتها، بل ربما أدى النقاش إلى استحضار السياقات التاريخية للأحداث والغوص في تفاصيلها إلى درجة أنْ يتخيل المرء أن العودة إلى الماضي تجاوزت وظيفتها المنهجية ودخلت في حالة من تصفية الحسابات الإيديولوجية والفكرية ، فعند الحوار حول المشكلة الطائفية على سبيل المثال، نجد أن جميع المتحاورين يتفقون على أن ارتفاع النبرة الطائفية في الخطاب السياسي أو السلوك الاجتماعي إنما هي حالة ارتكاس شديد إلى حواضن ما دون وطنية، كما يتفقون على ضرورة تجاوزها أو التغلب عليها، ولكن عملية التجاوز هذه سرعان ما تخطف جهود معظم المتحاورين إلى تعقّب هذه الظاهرة ( الطائفية ) عبر التاريخ، ليس بهدف تحديد ماهيتها والإحاطة ببواعثها وأسبابها فحسب، بل غالباً ما تتحوّل هذه الخطوة إلى اشتباكات عقدية وفكرية متجددة تطغى على مشكلة الطائفية في تجلياتها الراهنة، ووفقاً لهذا المنحى من التفكير،فإن معالجة المسألة الطافية في سورية تستدعي – حكماً – نقاشاً حادا وطويلاً يستنزف التفكير والوقت حول كيفية تشيّع بني هاشم، وتسنّن بني أمية، واستعراض جميع الحروب بين أنصار علي وأنصار معاوية، ثم لا يلبث أن يمتد الخلاف حدّةً بين أنصار ابن تيمية وابن رشد ….إلخ، وهكذا يصبح التوافق بين المتحاورين على موقف معاصر من المسألة الطائفية مرهوناً بتوافق حول جميع امتدادات هذه المسألة عبر التاريخ. وغالباً ما يُلاحظ أنه حتى في حال غياب الجذر التاريخي للمسألة المطروحة في النقاش، فإن ثمة إصراراً لدى قسم من المتحاورين على إيجاد ذلك الجذر، وكأن ثمة كوابح لا تتيح لأي حوار أن يمضي إلى المستقبل دون الانعطاف إلى الماضي، ليس لتجاوزه، بل للضياع في سراديبه والخدر في أبهائه المكتظة بالحروب والنزاعات وروائح المعتقدات والمذاهب وأنهار الدم وجماجم القتلى، وبعد الاستغراق في هذا الاستنقاع التاريخي، تصبح العودة إلى الراهن محفوفة بكل أشكال الحساسيات التي يبعثها الماضي من جديد.

2 –  حين تكون العودة إلى الماضي  لتقييم التجارب السياسية السابقة – القومية أو الشيوعية أو الإسلامية –  منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى الآن، غالباً ما يغيب الشرط التاريخي لتلك التجارب عن المتحاورين، أعني غياب المعطيات الفكرية والإقتصادية والثقافية المزامنة لها، ويصبح تقييمها وفقاً لمعطياتنا الراهنة التي أفرزها زمن مختلف عما سبق. فعلى سبيل المثال: جميعنا يتحدث بزخم شديد عن الديمقراطية باعتبارها المعيار الأكثر أهمية لنجاح أي تجربة سياسية، ولكن في الوقت نفسه علينا أن نعترف أن الديمقراطية – وحتى بداية السبعينيات من القرن الماضي –  لم تكن أطروحة مركزية لدى جميع أطياف الفكر السياسي بمرجعياته الثلاث ( القومية والشيوعية والإسلامية)، وعلينا الاعتراف أيضاً بأن أشد الناس حماساً حيال الليبرالية والديمقراطية في الوقت الراهن، نما وعيهم وترعرع في تربة الإيديولوجيات الماركسية والقومية سابقاً، وعلينا الاعتراف جميعاً بأن ثورات الربيع العربي ، وربما الثورة السورية على وجه الخصوص، وبفضل كشوفاتها الثقافية العظيمة، هي من أتاحت لشعوب المنطقة الخروج من الوعي الزائف للإيديولوجيات التقليدية الشائخة، إلى وعي جديد يرى في الديمقراطية وقيم الحرية والمساواة معطيات كونية لا تنتقص من انتمائه العرقي أو الديني، ولا تحول دون نضاله للتحرر من الاستعمار إن لم نقل أنها شرطه الضروري.

لذلك لا أعتقد أنه من السليم لدى محاكمة التجارب السابقة جلدها بسياط مستنبطة من الحاضر دون النظر إلى السياق التاريخي المزامن لها بكل حوامله الفكرية والاجتماعية، كما أميل إلى الظن بأن ليس كل ما حملته الإيديولوجيات التقليدية هو شر يجب رجمه، وعلينا أن نمتلك القدرة على استخلاص ما يمكن المراكمة عليه، لاعتقادي بأن مسارات النضج في الوعي والفكر إنما هي مسارات تراكمية وليست طفرات مباغتة.

المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها

%d مدونون معجبون بهذه: