
حسن النيفي
باحث وكاتب سوري
هل يحتاج السوريون إلى أحزاب مؤدلجة؟
فرضت الإيديولوجيا نفسها – كأداة للتفكير – في مراحل زمنية محدّدة، بل ربما باتت الإطار الفكري لجماعات أو أفراد أو دول لحقبة زمنية تطول أو تقصر، كما استطاعت ضمن ظروف وشروط تاريخية ما، أن تجسّد لدى حامليها حافزاً نحو العمل والمثابرة والصبر، بل ربما ارتقى تجذّرها لدى البعض إلى درجة التضحية بالنفس، وهي بهذا لم تكن تؤدي وظيفة معرفية أو فكرية فحسب، بل إلى جانب ذلك – وهو الأهم – كانت سلاحاً مُشهراً في وجه الخصم، لا يكتفي بدحض فكرته أو تخطئته فقط، بل يرمي إلى محوه أو إقصائه، ولعله يصح القول: إن الإيديولوجيا كانت فضاءً ذهنياً ملازماً وضرورياً لجميع المشاريع ذات الطابع الدعوي الذي يرى أصحابه الكونَ لا كما هو في الواقع، بل كما هو في أذهانهم وذواتهم. إلّا أن تطور العلوم الطبيعية وانعكاساته المباشرة على التيارات الفكرية والفلسفية أظهر شيئاً فشيئاً هزالة التفكير الإيديولوجي، بل وجده (علامة من علامات المراهقة الفكرية ) بحسب عبد الله العروي.
لقد جسّدت الإيديولوجيا في سورية منذ أواخر العشرينيات من القرن الماضي فضاءً معرفياً ونضالياً بآن معاً لمعظم التيارات السياسية التي بدأت تأسس في ذلك الحين، مدفوعة بتأثير أحداث وعوامل هامة، لعل أبرزها انتصار الثورة البلشفية وظهور فكرة القومية العربية، وكذلك ظهور تيار( سيد قطب) الإسلامي على أعقاب فشل مشروع النهضة الإصلاحي، ومنذ مطلع الأربعينيات بدأت الإيديولوجيات الثلاث ( الشيوعية والعروبية والإسلامية) بالتبلور كأطر نضالية لدى معتنقيها، فالعروبيون وجدوا في فكرة العروبة مظلةً جامعة وعاملاً من عوامل الوحدة في التصدّي للاستعمار وبناء مشروع الدولة – الأمة – العربية الواحدة، والماركسيون وجدوا في الشيوعية وسيلة لمقاومة الامبريالية، والإسلاميون وجدوا في إقامة الدولة الإسلامية سبيلاً للحفاظ على الإسلام من خطر الغرب وكذلك سبيلاً لتحرير المقدسات الإسلامية من الصهاينة، واستمر الفكر السياسي عبر تلك القنوات الإيديولوجية سائداً حتى حرب حزيران 1967 التي أحدثت نكسة في الوجدان العربي، فظهر على أعقاب حراك فكري وثقافي ذو طابع نقدي، تمثّل بعدد من المثقفين اليساريين، لعل أبرزهم الياس مرقص وياسين الحافظ وجمال أتاسي وغيرهم، فقاموا بمراجعات نقدية حاولت خلخلة المفاهيم بغية تصويبها وإعادة إنتاجها، كنقد الستالينية بالنسبة لمرقص، ونقد الفكر القومي من جانب ياسين الحافظ كما جاء في كتابه ( الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة، وكذلك المراجعات التي كتبها جمال أتاسي في النظرية الناصرية، وربما كان من الصحيح أن تلك الجهود النقدية لم تغادر الفضاء الإيديولوجي سواء القومي أو الماركسي، ولم تستلهم الواقع الاجتماعي السوري بقدر ما ظلت أمينة لمقولاتها الإيديولوجية السابقة كما أشار إلى ذلك الكاتب علي العبد الله في مقالة له بعنوان ( المعارضات السورية سلفيات متصارعة – العربي الجديد 25 – أيار 2022 ) ولكن على الرغم من ذلك تبقى تحتفظ بقيمة تاريخية باعتبارها جسّدت سبقاً ثقافياً بالتطاول على اليقينيات الفكرية المألوفة، أمّا في الجانب الإسلامي فقد لا نجد مراجعات فكرية عميقة وذلك بسبب قدسية المرجعيات الدينية للقوى الإسلامية.
يمكن الذهاب إلى أن المعارضة اليسارية السورية ( قومية وشيوعية )منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي وحتى ثورة آذار 2011 ، ظلت تستلهم ما أنتجه الحراك الثقافي في الفترة التي تلت حرب حزيران، بل يمكن التأكيد على أن عدداً من القوى السياسية التي كانت تعمل تحت إطار جامع يُدعى ( التجمع الوطني الديمقراطي) ويضم عدداً من القوى، منها: الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، الذي بات اسمه بعد 3004 حزب الشعب، وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي، وحزب العمال الثوري، وحزب البعث الديمقراطي، وربما أحزابا أخرى، أي هذه الأحزاب التي تتراوح بين القومية والماركسية لم تكن بعيدة استلهام المُنتَج الفكري للمفكرين الذين سبق ذكرهم، إلّا أنه يجب التنويه إلى أن الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، قد عقد مؤتمراً عام 2004 ، أعلن من خلاله تخلّيه عن الشيوعية وانحيازه نحو الليبرالية، كما أعلن عن تسمية جديدة للحزب ( حزب الشعب الديمقراطي).
لعل من أبرز المفارقات التي أنتجتها الثورة السورية في آذار 2011 ، هي ما يشبه القطيعة بين الفكر الذي أنتجته الإيديولوجيات التقليدية السابقة، وبين الوعي الذي انبثق من ثورة السوريين، والذي تجسّد في شعارات ومطالب لا تنتمي في قسم كبير منها إلى الإرث الفكري السابق، بل تنبثق من السياق الاجتماعي لحياة الناس، ذلك أن مطالب السوريين في الحرية والكرامة والعيش الكريم وتحقيق العدالة والديمقراطية وسيادة القانون، إنما هي مطالب من خارج الفضاء الإيديولوجي القديم، وربما تصح تسميتها بالمطالب الإنسانية العامة التي تشترك فيها مع كافة البشر في العالم المتحضّر، ولعلّ هذا التباعد بين انبثاقات الوعي الجديد للثورة، وبين الإرث الفكري الحزبي القديم قد أوجد مسافة خالية بين تلك الأحزاب وبين حراك الثورة، ولعل هذه القطيعة المعرفية بين القوى السياسية التقليدية والحراك الثوري كانت لها تداعياتها السلبية على سيرورة الثورة، إذ حرمت الثورة السورية من دور حزبي يعمل على توجيه الحراك الثوري وتمثيله سياسياً، كما أسّس هذا الفراغ الحزبي لظهور أجسام وكيانات قيادية من خارج فضاء الثورة، ولعل الأزمة المزمنة في الكيانات الرسمية للمعارضة بعد مضي أكثر من عقد على انطلاقة الثورة هي إحدى النتائج المباشرة لانعدام الدور الحزبي الفاعل في الحياة السياسية في سورية.
لعل اللافت في الأمر منذ العام 2011وما بعد، هو اندفاع الكثير من السوريين، نحو تشكيل أحزاب وأطر سياسية بهدف استدراك الفراغ الحزبي السابق، وهذا توجه صحيح من حيث المبدأ والسياق العام، إلّا أن السؤال الأهم هو: هل ما تزال الإيديولوجيا صالحةً لأن تكون أداةً معرفيةً وفضاءً نقياً للتفكير وإنتاج السياسة؟ وبالتالي هل هي قادرة على استيعاب الوعي الجديد الذي يميل إلى استلهام الواقع ويرفض التسليم بالأفكار واليقينيات الجاهزة؟ واقع الحال يؤكّد أن العديد من الأحزاب والتيارات السياسية التي تشكلت حديثاً، أو هي في طور التشكيل، ما تزال تنطلق في فكرها وسلوكها معاً من ثوابت إيديولوجية بمختلف أشكالها، وذلك على الرغم من شعاراتها وأدبياتها التي تدّعي خلاف ذلك، ولعل المتتبّع للسجالات الحزبية والمواقف السياسية بين القوى الإسلامية والعلمانية حول ما تشهده القضية السورية عبر سيرورتها خلال أحد عشر عاماً، يدرك أن شرايين تلك الأحزاب والتيارات ما تزال تتغذى من جذور الإيديولوجيا العتيقة، وأن مفهوم ( الوطنية السورية) ما يزال شاحباً في تلك الشرايين.
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها