
حسن النيفي
باحث وكاتب سوري
تجريف عوامل الخراب أولاً
عايش السوريون منذ بدايات تأسيس الدولة الأسدية 1970م وحتى اللحظة الراهنة، نمطين من الإدارات، ينتمي كل نمط منهما إلى منظومة سياسية، وربما إيديولوجية قد تكون مباينة للأخرى، إلّا أنهما تتقاطعان، بل ربما تتماهيان مع بعضهما البعض، من حيث منهج التفكير، ومن ثم السلوك المنبثق من طريقة تفكير كلّ منهما. تتمثل الإدارة الأولى بالحقبة الأسدية الممتدة من العام 1970 وما تزال قائمة، إذ واجه نظام الأسد خلال فترتي الأب والابن، ثلاث منعطفات هامة في تاريخ سورية، المنعطف الأول هو حرب حزيران عام 1967 ، والتي احتلت فيها إسرائيل الجولان وقسماً من الأراضي الفلسطينية ( الضفة الغربية وقطاع غزة)، وقد أحدثت تلك الحرب زلزالاً عنيفاً ومباغتاً ليس للسوريين فحسب، بل للعرب والمسلمين جميعاً، وعلى الرغم من الدور الضالع لحافظ الأسد آنذاك في عملية احتلال الجولان، باعتباره وزيراً للدفاع، إلّا أن هذا الزلزال لم يحظَ من تفكير الإدارة الحاكمة سوى بحيّز التبرير، إذ إن عوامل الهزيمة انحصرت بحجم المؤامرة الإمبريالية ودعمها للكيان الصهيوني، وأن هذه المؤامرة كان المراد منها أبعد من ذلك، وفقاً لحكومة الأسد، وهو كسر روح المقاومة وإرادة النضال، ولكن هذا لم يتحقق بفضل صمود النظام ومقاومته، وبالتالي فإن خسارة الأرض، يقابلها عند النظام إنتصار الإرادة المتمثل ببقاء السلطة واستمرارها. المنعطف الثاني كان في حرب السادس من تشرين أول 1973 ، تلك الحرب التي دعاها حافظ الأسد بالتحريرية، وما هي في حقيقة الامر سوى تحريكية، إذ إن تلك الحرب – وعلى الرغم من الاستثمار الإعلامي الهائل لها من جانب النظام – لم يجن منها حافظ الأسد أي مكسب ملموس سوى ما يتوهّم على أنه ردّ اعتبار له، على ما أعقبته هزيمة حرب 1967 . ثم كان المنعطف الثالث في آذار 2011 ، غداة انطلاقة الثورة السورية، التي حسم بشار الأسد أمره باتجاه الحل الأمني، وقرر المواجهة العسكرية ضد شعبه مستعيناً بكل حلفائه، ساعياً إلى الإجهاز على تطلعات السوريين ومطالبهم المشروعة في الحرية والكرامة، ولو أدى ذلك إلى تحويل البلاد إلى أنقاض، زاعماً انه يقود حرباً على الإرهاب، ومتمسّكاً بالآن ذاته بالخطاب ذاته الذي يستبطن كل أشكال المقاومة والممانعة والنضال ضد المؤامرة المزعومة. وعلى الرغم من كل ما حدث، بقي النظام كما هو، لم يتغيّر أيّ شيء لا في بنيته التنظيمية أو الإدارية، ولا في تفكيره ولا في سلوكه، وكان المعوّل الأساسي لنظام الحكم في إدارته لجميع هزائمه وإخفاقاته هو منهج التبرير، المنبثق من نزعته الجارفة نحو التسلّط والاستمرار في السلطة.
أمّا الإدارة الثانية، فهي المتمثلة في الكيانات الرسمية للمعارضة السورية، الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، بصفته كياناً سياسياً يدّعي تمثيل الثورة السورية، ولئن كان من الصحيح أن هذه المعارضة شرعت في مناهضة الأسد – سياسياً وعسكرياً – ورفعت شعار التغيير نحو الديمقراطية وسلطة القانون والعدالة، إلّا أنها من حيث نمط التفكير الناظم للإدارة، لا تبتعد كثيراً عن المعين المنهجي الذي يمتح منه النظام، بل ربّما قصّرت عنه في بعض الأحيان بسبب قلّة خبرتها في ممارسة السلطة، فبعد مرور عقد وسنتين من عمر الثورة ، وبعد حدوث تغيّرات هائلة على المستوى الميداني والسياسي، لعل أبرزها: سقوط حلب الشرقية أواخر العام 2016 ، واقتحام قوات النظام مدن حمص والغوطة ودرعا وقسماً كبيراً من أرياف أدلب وحماة وحلب، وانحسار تام لنفوذ ما كان يدعى بالجيش الحر، وعلى المستوى السياسي، الالتفاف الروسي الكامل على القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، واختزال العملية السياسية بسلة الدستور، فضلا عن تجاوز البنود الإنسانية ذات التطبيق الإلزامي، الواردة في القرار 2254 ،فيما يخص المعتقلين والمغيّيبين قسراً، أضف إلى ذلك، التغييرات التي طرأت على بنية القوى والأحزاب التي تشكل منها الائتلاف، أقول: جميع هذه التغييرات لم تشكل حافزاً للائتلاف ومشتقاته لإعادة النظر في إدارة الصراع وطريقة التعاطي مع تداعيات المشهد السوري ، وكذلك مع المحيط الدولي، وهو إنْ أراد أو أوهم السوريين بأنه سيفعل ذلك، فغالباً ما يلجأ إلى القفز من فوق الإشكاليات الحقيقية التي يراها السوريون، كما هو الحال في إدارته الحالية التي تحيد بعيداً عن التحديات الجوهرية في عملية الإصلاح، ولعل الأهم من ذلك السعي نحو العمل لاستعادة القرار الوطني ونزْع الصفة الوظيفية عن الإئتلاف، أمّا الاستمرار في اللجوء إلى البربغندات الإعلامية فهو لا يكشف عن استهتار بإرادة السوريين وتضحياتهم والاستمرار في الاعتياش على نزيف مأساتهم فحسب، بل يكشف أيضاً عن مستوى الانحدار الأخلاقي المتمثل بإيثار المصالح الشخصية الرخيصة على المصلحة الوطنية السورية.
ربما تتجلّى فداحة المأساة السورية بشكل أكثر بؤساً حين نجد أن منطق التبرير الذي استثمره نظام الأسد طيلة نصف قرن، للتعمية على هزائمه من جهة، وكذلك للتذرّع عما يمارسه من إجرام وقمع بحق شعبه من جهة أخرى، هو ذاته المنطق التبريري الذي تستخدمه معارضات النظام وملحقاتها للتعمية على تجنّيها الفظيع على قضية السوريين، إذ ما الذي يجيز للمعارضة اختزال القضية السورية بمفاوضات عبثية لا أفق لها على كتابة دستور لن يقدّم أو يؤخر شيئاً بوجود سلطة الأسد ذاتها؟ ثم ما الذي يستنتجه المرء من دفاع اللجنة الدستورية المنبثقة عن منصات المعارضة عن عبثيتها بقولها: إن استمرار المفاوضات ولو بدون جدوى، من شانه أن يُبقي القضية السورية ماثلةً في أذهان المجتمع الدولي؟ وهل بقاء القضية السورية حيّةً في المحافل الدولية يوجب الاستمرار في التنازلات والتفريط بحقوق السوريين من خلال القبول بأجندات منها ما يمليه نظام الأسد، ومنها ما تمليه المصالح الخارجية، أم من خلال الارتقاء بالعمل الوطني عبر تعزيز أواصر النضال مع الشعب السوري والالتزام بالمصالح الوطنية والعمل بإخلاص وتفانٍ واستبعاد كل أشكال المصالح الدونية الأخرى؟
ما ابتُليَ به السوريون يجسّد مأساة مركَّبة، طبقتها الأولى نظام الإجرام الأسدي الذي استنزف دماءهم واستباح قتلهم وتهجيرهم، وطبقتها الثانية معارضةٌ ادّعت نصرتها لقضيتهم، إلّا أن نزوعها السلطوي ومحدودية أفقها الأخلاقي الثوري، يجعل منها عبئاً آخر على قضيتهم، لا يقل ثقلاً عن مواجهة نظام الأسد، مع التأكيد على أن كل ما يقال عن دور المجتمع الدولي والأدوار الخارجية في تخريب بنى الثورة هو صحيح في جزء كبير منه ولا يمكن إنكاره، ولكن كل عوامل الخراب التي تأتي من الخارج لا يمكن لها أن تنمو وتزدهر لولا وجود المناخ الخصب لنموها وتفاقمها، ومن هنا تتعزز القناعة بأمرين اثنين: يتمثل الأول بأن أي محاولة لقطع الطريق أمام عوامل الخراب الخارجية ينبغي أن تبدأ بتجريف العفن الداخلي القابل للتغذية من الخارج، ويتمثل الثاني بأن المعارضة التي يستطيع نظام الحكم ترويضها وهندستها والتحكم بآلية عملها، كما يحرص على أن تتغذّى على الدوام من طرائق تفكيره وسلوكه، لهي معارضة تليق به أكثر مما تليق بثورة السوريين.
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها