حسن النيفي

باحث وكاتب سوري

نحو حراك وطني سوري جديد

في موازاة حالة  الموات الثوري والسياسي التي تحاصر الكيانات الرسمية للمعارضة السورية، تستمر القوى الوطنية السورية الأخرى المتمثلة بالأحزاب والتيارات والتجمعات في السعي إلى إيجاد مظلة وطنية جامعة أو إنشاء جسم سياسي قوامه مجمل هذه القوى و الأحزاب المتناثرة على امتداد سورية وبلدان اللجوء، وذلك في محاولة لاستعادة زمام المبادرة الوطنية وحرصاً على ديمومة الثورة السورية والدفاع عن مطالبها العادلة والمشروعة. ولئن كانت تلك المساعي التي تبذلها القوى الوطنية في هذا السبيل لم تفلح في الوصول إلى مبتغاها حتى الآن، إلّا أنه من جهة أخرى، لا يمكن النظر إلى هذا المسعى المتعثر بعين الإخفاق والسلبية، بل لعله من الأجدى أن ننظر إلى مجمل التعثرات والكبوات على أنها تجارب تنطوي على الكثير من إرساء الخبرات والفائدة، وخاصة إذا أخذنا بالحسبان أن الوصول إلى إيجاد كيان سياسي وطني جامع يمثل السوريين وينبثق من إرادتهم إنما هو مُنجَز تراكمي ينمو وينضج بتكامل التجارب والخبرات، ولا يمكن أن ينبثق من العدم بلحظة فجائية، ولعله من نافل القول أن نشير دوماً إلى افتقاد السوريين للإرث السياسي الحزبي طيلة عقود من الحكم الفردي والتسلّط والاستبداد.

يمكن التأكيد على أن مجمل الحراك المتمثل بنشاط الأحزاب والتجمعات السورية وحواراتها البينية إنما يجسّد حالة سليمة، كما يؤكّد إحساساً بالمسؤولية حيال التضحيات العظيمة للشعب السوري، و إرادة قوية على تحصين ثورة السوريين من الاندثار والتلاشي، ولكن ما ينبغي تأكيده أيضاً أن التفكير الرغبوي، وإن كان ضرورياً بعض الأحيان، إلّا أنه لن يفضي إلى مُنتَج ملموس إنْ لم يقترن بخطوات موازية على مستوى التفكير والعمل معاً، وما نعنيه بتلك الخطوات هو الإقدام على مراجعات فاحصة لمجمل الأفكار والمنطلقات التي أخذت طريقها نحو الرسوخ والثبات منذ آذار 2011 ، ولكنها بعد عقد من الزمن لم تعد تحتفظ بمصداقيتها وصوابيتها، وبات من الضروري إعادة النظر في ماهيتها قبل البناء عليها. وفي هذه المقالة الوجيزة يمكن الوقوف بإيجاز عند ثلاث من هذه الأفكار:

أولاً – إن استمرار وصف النظام الحاكم في دمشق ب ( الإستبدادي) فيه الكثير من الاختزال وتمييع أو تغييب حقيقة النظام، ذلك أن الاستبداد هو صفة من صفات نظام دمشق، بل لعلها الصفة الأقل قذارةً، وإذا أردنا أن نصوغ مصطلحاً دقيقاً نستنبطه من ممارسات نظام الأسد، فلعل مصطلح ( نظام الإبادة ) يكون أكثر دقةً، وبناء عليه فإن المواجهة بين الشعب السوري والنظام هي صراع وجود وليس صراع من أجل الحصول على مكاسب سياسية أو تنازلات يمكن أن يقدمها النظام للشعب، ذلك أن إصرار الأسد على تدمير سورية ( البشر والحجر) لهو تعبير حقيقي عن قناعة راسخة لدى النظام بأن سورية هي ملك عضود له ولحاشيته، وأن جميع مواطنيها ما هم سوى قطيع في مزرعته، وهذا يفضي إلى نتيجة موازية مفادها أن السوريين إذ يصرّون على انتزاع بلادهم من براثن الطغمة الأسدية، فإنهم يدافعون عن وجودهم كبشر، وعن مستقبل أبنائهم وبلادهم.

ثانياً – لقد أصدرت المرجعيات الدولية ثلاثة قرارات بخصوص القضية السورية ( جنيف 1 – 2254 – 2118 ) وجميعها تشير إلى أحقية السوريين في صياغة مستقبل دولتهم عبر عملية انتقال سياسي يُفضي إلى التغيير وإنهاء حقبة التسلّط والوحشية والتفرّد في السلطة، إلّا أنها أكّدت في الوقت ذاته على أن الانتقال السياسي إنما يتم عبر عملية تفاوضية بين النظام والمعارضة، ولكن الوقائع تؤكّد أيضاً أن مجمل المسارات التفاوضية ( جنيف – أستانا ) لم تُنتج شيئاً، وعلى الرغم من جملة التنازلات التي قدّمتها المعارضة نتيجة الضغوط الدولية والإقليمية، إلّا أن الذي بات حقيقة واضحة أن نظام الأسد لا يجد في العملية التفاوضية سوى استثمار للوقت، وكذلك لمشاغلة المجتمع الدولي، بينما في حقيقته ما يزال يراهن على جدوى الحلّ الأمني الذي لا يملك سواه، وبالتالي ألا توجب حالة الانسداد السياسي على القوى الوطنية السورية إعادة النظر في فحوى العملية السياسية، ومن ثم بناء استراتيجية جديدة للمواجهة؟ بالطبع هذه ليست دعوة للتخلي عن القرارات الأممية، بل إن هذه القرارات انتزعها السوريون بتضحياتهم ومن حقهم التمسّك بمضامينها كاعتراف أممي بشرعية مطالبهم وعدالة ثورتهم، ولكن الدعوة إنما تكون إلى إيجاد سبل نضالية وحقوقية موازية للمسار الأممي، وعدم الركون إلى مفاوضات عبثية يتحكم بسيرورتها النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون.

ثالثاً – لا أحد يمكن أن يتجاهل مسألة ( تدويل القضية السورية)، وبالتالي لم يعد السوريون هم الممسكون بمفاصل قضيتهم، إلّا أن هذا الكلام بقدر ما ينطوي على كثير من الموضوعية، إلّا أنه – من جهة أخرى – أصبح عند البعض يجسّد مخرجاً للتنصّل أو إدارة الظهر عن أي مسعى نحو الحيّز السوري الذاتي لاستدراك معالم الخراب ومن ثم إعادة البناء، بل أتاح المجال لتتوجه الأنظار جميعها نحو الإرادات الدولية، بانتظار ما ستقرره الدول النافذة في الشأن السوري، ووفقاً لذلك، بات شطراً كبيراً من الحراك السوري يتوجّه نحو سفارات الدول والمحافل الخارجية الأخرى، موازاةً مع عزوف شبه كامل عن العودة إلى السوريين أنفسهم، أصحاب شرارة الثورة الأولى.

يمكن التأكيد على أن حاجة الثورة السورية إلى تأييد دولي وإقليمي هي أمرٌ بدهي، وكذلك من البداهة أن يبذل السوريون أقصى جهدهم لإيجاد الحشد الكافي والمناصرة اللازمة في جميع دول العالم لدعم قضيتهم، ولكن هذا المسعى لا ينفي أبداً أولوية الاستقواء بالسوريين قبل أي أحد آخر، كما لا ينفي أبداً ضرورة استرجاع السوريين لقرارهم الوطني والإمساك بزمام المبادرة الوطنية، ولعل تحقيق هذه المعادلة يبدو أمراً عسيراً في نظر البعض، وخاصة في ظل استمراء الارتهان للإرادات الدولية والالتزام الكامل بالأجندات التي يمليها الخارج على الكيانات الرسمية للمعارضة، ولكنه يبدو قابلاً للتحقّق إذا توفرت حوامله الأساسية التي هي مرهونة بإرادة وإخلاص المخلصين من السوريين قبل سواهم.

المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها

%d مدونون معجبون بهذه: