
حسن النيفي
باحث وكاتب سوري
على هامش الحديث عن الإرهاب
ربما كان مفهوم (الإرهاب) هو من أكثر المفاهيم تعقيداً وغموضاً ومحطّ خلافٍ وتأويل وتدوير في العصر الحديث، وذلك ليس بسبب غياب الدلالات اللغوية والمعجمية لهذا المصطلح، بل لأنه ببساطة شديدة، لم يعد مفهوماً قيمياً مجرّداً من السياقات السياسية والمصلحية الملازمة له، أي لم تعد مدلولاته تحظى بالثبات والديمومة، إنما أصبح يكتسي دلالاته ومعانيه من الزمان والمكان الحاضنين لتجلياته، فضلاً عن طبيعة الأطراف الفاعلة في سيرورته المادية والمعنوية على السواء.
هذا الالتباس والاضطراب الذي يكتنف معاني مصطلح (الإرهاب) وتجلياته، لا يظهر – بالتأكيد – لدى الإنسان الغربي عموماً، فما هو معلوم في معظم الدول الغربية أن من يهشُّ، أو ينهر كلباً أو قطةً في لحظة نزق، يمكن أن يمثل أمام المحكمة إذا ادّعى عليه صاحب الكلب أو القطة، بتهمة أن المُدّعى عليه قد تسبب بأذى نفسي للحيوان، في حين قد يبدو الإقدام على إزهاق روح أو أرواح الأفراد أو الجماعات أو الشعوب مسألةً مشروعةً في سياقات مكانية وزمانية أخرى.
في أوئل الألفية الثالثة قامت الولايات المتحدة الأمريكية باحتلال أفغانستان، بذريعة استئصال تنظيم القاعدة الذي يتخذ من أفغانستان منطلقاً له، وذلك على أعقاب أحداث الحادي عشر من إيلول عام 2001 ، علماً أن الداعم الأساسي والقوة التي أوجدت تنظيم القاعدة في أفغانستان هي الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، حين أرادت واشنطن في أواخر ثمانينيات القرن الماضي محاربة النفوذ السوفياتي، وبالفعل انهزم السوفيات من أفغانستان بفعل الضربات الموجعة وحرب الاستنزاف التي كانت تشنها جماعات القاعدة على الجنود السوفيات. كما أقدمت إدارة بوش الأبن عام 2003 على احتلال العراق، بحجة حيازته على أسلحة دمار شامل، وحين تبيّن أن تلك الحرب قامت على ادعاءات كاذبة، قوامها تقارير إستخباراتية مزيّفة، حينها إدّعت واشنطن أن احتلالها للعراق كان بدافع القضاء على الإرهاب الذي يجسّده النظام العراقي السابق، وإحلال الديمقراطية في البلاد. وبعد نحو عقدين من الزمن على احتلال كلٍّ من أفغانستان والعراق، أعلنت واشنطن على حين غرّة انسحابها الكامل من أفغانستان، وأعادت البلاد بقضها وقضيضها إلى جماعات طالبان، بينما تركت العراق يتخبّط في حالة من الفوضى والفشل المستمر، نتيجة وقوعه فريسة بيد إيران ومشتقاتها الطائفية.
ما هو لافتٌ للانتباه أن الحرب الأمريكية على الإرهاب، وبخاصة تنظيمات القاعدة وملحقاتها، ما تزال قائمة، ولعل التحالف الدولي الذي قامت الإدارة الأمريكية بتشكيله في شهر أكتوبر عام 2015 ، بالتنسيق مع قوات سورية الديمقراطية لمحاربة تنظيم داعش في سورية ما يزال قائماً، ولكن ما الذي يجعل الأمريكان يحاصرون الجماعات القاعدية في مكان، ثم يتيحون لها انفراجاتٍ وتمدّداً في أمكنة أخرى؟ أليست عودة طالبان إلى حكم أفغانستان تمكيناً للقوى الأصولية المتطرفة؟ ألم تكن كابل وقندهار هي الأعشاش التي انطلقت منها أكثر أسراب القاعدة شراسةً ودمويةً؟ من جانبها تؤكد إدارة الرئيس بايدن أن انسحابها من أفغانستان أملته ضرورات داخلية أمريكية ذات صلة بالجانب الاقتصادي من جهة، وحرص واشنطن على الحدّ من حروبها خارج الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، وهذا يعني حاجة واشنطن إلى من يحارب عنها بالوكالة، وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لم تتمكن طيلة عشرين عاماً من احتلالها لأفغانستان من إيجاد حكم محلي وطني قادر على قيادة البلاد بعيداً عن الأصولية المتطرفة؟
ما من شك في أنه لا يوجد في قاموس السياسة الأمريكية إرهاب مجرّد خارج عن نسق المصالح، فالإرهابي في مكان ما، قد يغدو حليفاً في مكان وزمان آخر، بل ربما تغدو مهادنة الإرهاب أمراً مطلوباً إن كان ذلك يخدم الوصول إلى هدف آخر، ولعل التجربة الأمريكية في سورية منذ العام 2015 ، يمكن أن تكون مثالاً ناصع الدلالة على زئبقية معايير الإرهاب، ليس في سورية فحسب، بل في العالم أجمع. إذ لقد تزامن تشكيل التحالف الدولي لمحاربة داعش بقيادة واشنطن، مع مباركة الإدارة الأمريكية للتدخل الروسي في سورية ( أواخر إيلول 2015 )، ولئن كانت محاربة تنظيم داعش أمراً يحظى بجميع المبررات، فما هي المبررات التي تجيز لروسيا قتل السوريين؟ ألم يهاجم الروس بطيرانهم الحربي حلب الشرقية أوخر العام 2016 ، ولم يتوقفوا عن قصفها إلّا بعد ترحيل ما يقارب مئتي ألف من سكانها المدنيين بالباصات الخضر نحو الشتات؟ ألم يكرروا فعلتهم هذه في الغوطة الشرقية والقلمون؟ ألم يهاجم الروس بطائراتهم في شباط 2020 مدن وبلدات خان شيخون وسراقب ومعرة النعمان وكفرنبل والعديد من بلدات ريف ادلب وريف حلب الغربي، ما دفع مئات الآلاف من المدنيين للنزوح من بيوتهم والتوجه نحو العراء؟ ولئن برّر الروس قتالهم ضد السوريين بأنهم إنما فعلوا ذلك بطلب من الحكومة الشرعية (نظام الأسد)، فهل يمكن أن يكون قصف المدن بالطائرات ومن ثم إجبار أهلها على النزوح فعلاً مُبررا باعتباره حظي بموافقة نظام الأسد؟ ولعل ما هو لافت أيضاً، أن جرائم بوتين في سورية على مدى سبع سنوات لم تكن موضع إدانة غربية أو أمريكية واضحة وصريحة، إلّا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، علماً أن فظائع الروس في سورية لم تتكرّر بعد في أي بلد آخر.
ويبقى باب التساؤلات مُشرعاً عن إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على تنفيذ استراتيجيتها الرامية إلى محاربة النفوذ الإيراني في سورية، تلك الاستراتيجية التي باتت موضع ريبة وشك، إذ يقول المنطق: إذا شوهد عددٌ من الذئاب والكلاب الضارية تتقاطر وتتجمّع حول (جيفة)، فالأولى هو انتزاع الجيفة أولاً وإبعادها، إذ لا جدوى من طرد الكلاب والهشّ عليها مع إبقاء الجيفة، وهل كان لإيران القدرة على الهيمنة المطلقة في سورية ونشر ميليشياتها الطائفية من درعا إلى البوكمال، لولا وجود نظام الأسد حصراً؟ وإذا كان تنظيم داعش ومشتقاتها يستبيحون دماء السوريين ويهدّدون أمن المنطقة بنشر التطرّف، فهل الميليشيات الطائفية التي جلبتها إيران من كل بقاع العالم، جاءت لنشر الخير والسلام والديمقراطية في سورية؟ وبالتالي هل تراهن واشنطن على تغيير سلوك هذه الميليشيات كجزءٍ من رهانها على تغيير سلوك نظام الأسد؟.
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها