
أحمد عرابي
أكاديمي سوري
ألا توجد عقول تنير الطريق إلى الأمام …. ؟
ألا توجد طرق سهلة للشعوب لاجتياز مشكلاتها ؟
ألا توجد عقول تنير الطريق إلى الأمام …. ؟ نعم يوجد ولكن لماذا الفشل ….؟ إنه ألم الفشل وأمل الإصلاح في البلاد العربية :
مايكل فيلد Michael Field صحفي بريطاني كان يعمل في جريدة الفاينانشيال تايمز وهو مهتم بالشأن العربي وله عدة كتابات داخل العالم العربي صدرله كتاب في نهاية العام 1994وهو كتاب صريح يمكن أن يوصف بأنه صورة شبه كاملة لوصفة مفادها “كيف يرانا الآخرون؟ ولكن ليس بالضرورة أن نقبل كل ما جاء في هذا الكتاب من تفاصيل، إلا أنه من الخطأ أن نغض بصرنا عنه , يقول الناشر منوهاً إن هذا أول كتاب يصدر بالإنجليزية عن العرب (كجموع) بعد احتلال العراق للكويت ويسرد لنا الكاتب قائمة طويلة بأسماء الذين قابلهم من العرب وغيرهم وكذلك فإنه يشير إلى خبرته ومقابلاته السابقة والدراسات الأخرى عن العرب في سياق كتابه , والكتاب يتألف من قسمين سماهما الكاتب : ( الفشل والإصلاح ) “الفشل” قصير لا يستغرق سوى ثمانية فصول لا غير، ولكن الإصلاح، عسير يأخذ من حجم الكتاب عشرين فصلاً كاملاً .
الفشل العربي : لماذا فشل العرب وأين فشلوا ..؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي يطرحه الكاتب في قسمه الأول ويعتبرالكاتب أن الفشل العربي السياسي والاقتصادي قد امتد لأكثر من خمسة عقود بعد الحرب العالمية الثانية , وهناك شعور بين العرب من وجهة نظره بالخيبة وعدم الثقة بالنفس ويرى الكاتب أن الخيبة والفشل ظاهرة عامة في الدول العربية ومن مظاهرها الديون المتزايدة لمعظم هذه الدول لمؤسسات مالية أو دول خارجية الأمر الذي يقود في النهاية إلى معادلة طرفها الأول أن الدولة التي لا تستطيع إيجاد عمل لمواطنيها أو تقديم الخدمات التي عودتهم عليها في السنين الماضية لا بد أن تقدم مقابلاً لذلك الطرف الثاني من المعادلة أن تقدم تنازلات سياسية إلا أن المعضلة أن هذه التنازلات السياسية قد تقود في نظر الكاتب إلى فوضى إن هي قدمت بسرعة ودون تخطيط تدريجي حيث ينقل عن أحد المسؤولين العرب قوله :
( إن الديمقراطية العربية كالدواء يمكن أن تقتل إذا أخذت بجرعات كبيرة )!. ويلاحظ الكاتب أن تعطيل خطوات الديمقراطية الشاملة هو ما سماه التحدي الأصولي فبعض الإسلاميين كما يقول رجال دين مثاليون لا شك في ذلك إلا أن معظمهم يستخدمون الشعار الديني للوصول إلى السلطة ويؤيدهم الكثيرون لا لأسباب خاصة بهم ولكن لأن هؤلاء لهم موقف من الآخرين أو السلطة القائمة جذور الفشل العربي : الفشل العربي الذي نرى مظاهره اليوم له جذور تمتد إلى مرحلة الحرب العالمية الأولى ، عندما نشط القوميون العرب ضد الدولة العثمانية آملين الحصول على الاستقلال والخروج من عباءة الدولة العثمانية حسب ضنهم ، ولكن كل ما حصلوا عليه بعد ذلك هو الوقوع في قبضة الإستعمار الغربي وتكريس الانقسام بين الأفكار المختلفة وأخيراً قيام إسرائيل برغم أنف الجميع ويبحر الكاتب في تاريخ العرب الحديث المعروف للكثير منا ولكنه يحلله بمنظور آخر فهو يعتقد أنه ليس الفشل والمرارة هما السبب في أن القوميين لم يحصلوا على دولتهم الموحدة فحتى هذه الدولة لم تكن لتسعدهم بل وقد تفتقر أيضاً إلى الإستقرارنظراً للتناقضات التي يمكن أن تحتوي عليها وما اختلف القوميون عليه في المشرق ليس أن تنشأ دولة عربية موحدة ولكن حول أي مقاطعة من المقاطعات يمكن أن تنضم إلى هذه الدولة مع ما فيهـا من أقليات عرقية أو مذهبية فكرة الوحدة التي رفعت شعار التخويف أو إرهاب الآخرين لم يكن رافعوها يرضون بها ويدلل الكاتب على الخلافات العربية من مراحلها المبكرة ويلاحظ بشيء من الغمز المبطن أن الوحدة العربية مقبولة فقط من تلك الدول التي تمكنت من السيطرة على الآخرين لا مشاركتهـم , ثم يأتي الحديث عن ملابسات الثورة العربية سنة 1916، وهو يرى أن ذلك تم لأن جمال باشا (الذي سماه التاريخ العربي بالسفاح) قد اكتشف نية الشريف حسين بالانفصال عن الإمبراطورية العثمانية ، وكان يجهز جيشاً لاحتمالات العصيان. ويرى الكاتب أن أحد أسباب الفشل العربي اللاحق أو أن العرب لم يفهموا ما حدث فيما بين عامي 1914 و 1922 وهي أعوام الحرب العالمية الأولى وما بعدها، فهذه الفترة هي مصدر ظهور معظم الخرافات السياسية والتصور القائل إن خلف كل حدث توجد مؤامرة أو ما يعرف بالتفسير التآمري للتاريخ مع أنها في نظر الكاتب مصالح للدول الكبرى تغيرت وتبدلت حتى بمرور سنوات الحرب وسنوات المفاوضات التي تلتها. لذلك فإن اتفاقية سايكس- بيكو (فبراير 1916) ووعد بلفور للصهـيونية (نوفمبر 1917) ومراسلات الشريف حسين مع مكماهون، كلهـا كانت ضرورات الحرب والسعي وراء النصر ومن الطريف أن الكاتب يفسر الحديث عن الاستقلال في مراسلات الشريف حسين ومكماهون بأنه يعني الاستقلال عن تركيا ولا يعني أن العرب تلقائيا سوف يحكمون أنفسهم !! ويبرر هذا القول بأن الغرب كان على يقين منذ عقود قبل الحرب العالمية الأولى من سقوط الإمبراطورية العثمانية وكان يشار إليهـا دائما (بالرجل المريض ) وفي حال سقوطها فإن الدول الأوربية سوف تتسلم مسئولية الإشراف على الأراضي التي كانت تابعة لها لقد كان الساسة الغربيون وقتها ينظرون إلى العرب في إطار الأفكار التي استقوها من الكتاب المقدس أكثر من فهمهـم للعرب كحقيقة وواقع ودائماً كانت المصالح هي التي تحدد مسار السياسة الغربية، فقد كان هم البريطانيين الأساسي تأمين طريق سكة حديد من موانىء البحر الأبيض إلى شمال الخليج لتسهيل نقل الجيوش من أوربا إلى الهند، جوهرة الإمبراطورية في ذلك الحين وأيضاً لإبعاد الروس عن المنطقة وظلت مشكلة البريطانيين لمائتي عام خلت ألا يكون للروس مواطئ أقدام في موانىء البحر الأبيض وألا تكون لهم حاميات عسكرية في أفغانستان وإيران والتي من خلالها يمكن أن تصل جيوشهم إلى سهول الهند والفرنسيون من جهة أخرى كانت مصالحهم تتمحور حول المسيحيين في جبل لبنان والذين تدخلوا قبل ذلك لحمايتهم في الحرب الأهلية سنة 1860 ومنذ تلك الحرب كان الجبلي اللبناني يحكم من مسيحي مسؤول مباشرة من الصدر الأعظم في إسطنبول، ولكن هذا كان يتم بالتشاور الدائم مع القوة الغربية هذا التدخل السياسي الفرنسي تواكب مع الاهتمام بزيادة التجارة وكانت السفن التجارية الفرنسية تنقل الحرير من دمشق مرورا ببيروت إلى البرجوازية الفرنسية الناهضة في نهاية القرن الماضي وقد ارتبط ذلك بذكريات فرنسية قديمة ترجع بلى الدولة المسيحية التي ظهـرت إبان الحروب الصليبية وكانت عاصمتها دمشق , لذا فقد كانت الخطوة الطبيعية أنه بمجرد إعلان الدولة العثمانية دخولها الحرب أن تحاول فرنسا احتلال الإقليم السوري من هذه المصالح نبتت فكرة تقسيم ممتلكات الإمبراطورية العثمانية إلى إقليم شمالي يكون بحوزة الفرنسيين، وإقليم جنوبي يحوزه البريطانيون , ذلك كان التخطيط إبان الحرب ، أما بعد الحرب فقد اختلفت المصالح وجد البريطانيون أنفسهم في دوامة وعودهم المتناقضة مع الفرنسيين، ومع الشريف حسين، ومع الصهيونية , ومع المناورات السياسية التي تلت، فإن هذه الوعود الثلاثية لم تتحقق كما أريد لها، فاكتفى الفرنسيون بسوريا ولبنان بعد مناوشات وحروب وضم البريطانيون إقليم الموصل لمصالحهم في العراق، إلا أن العرب كانوا مختلفين أيضا ففي المؤتمر السوري العام الذي عقده القوميون في نهاية عام 1919 وبداية 1920، كان هناك اتفاق على أهمية وجود سوريا الكبرى ولكن ليس العراق، فقد أصر معظم ممثلي ما بين النهرين (العراق لاحقا) على أن يرفضوا فكرة التوحد !.. هذه الجذور في الاختلافات التي يناقشها الكاتب بإسهاب هي التي، في نهاية الأمر، كانت السبب في وجود بعض الدول العربية المعروفة اليوم في بلاد الشام، وظهرت الدولة القطرية التي أخذت استقلالها بعد ذلك تدريجيا من النفوذ البريطاني والنفوذ الفرنسي وتوالت مواقيت الاستقلال وتكون الدولة الحديثة.
الاقتصاد : جزء كبير من الكتاب، سواء في قسم الفشل أو قسم الإصلاح يخصصه الكاتب لمناقشة الاقتصاد العربي فخلال عشرين عاما بعد تصحيح أسعار النفط 1973 كان دخل العرب من النفط حوالي ترليوني دولار , ولكن لم يحدث هذا المال في أي مكان معجزة اقتصادية تماثل ما حدث في دول جنوب شرق آسيا مثل كوريا وتايوان أو سنغافورة أوماليزيا ويفسر الكاتب السبب في فشل هذا المال في تحقيق معجزة اقتصادية بأن المال وحده ليس بالضرورة مسبباً جيداً للتنمية , فرأس المال تحتاج إليه الدول لبناء الموانىء والطرق وشبكات الاتصال وبعض البني التحتية وكذلك المدارس والمستشفيات ولكن من أجل إقامة صناعة متطورة وخدمات مثمرة فإن أية دولة تحتاج أكثر من المال تحتاج إلى الاستقرار السياسي وقوة عمل واعية ومنظمة وملتزمة وسوق قريب نشيط. والعديد من الدول العربية تنقصها هذه العوامل , فالغرب يعرف العرب بالمال النفطي , وكما يقول الصحفي باترك كوكبيرن من الفاينانشيال تايمز (إن مشكلة النفط أنه لا يفعل شيئاً غير أن يعلم الناس الاستمتاع بصرف مداخيله ) وهذا القانون يؤكد المؤلف ينطبق على الدول العربية الغنية بالنفط والمستفيدة منه بشكل مباشرأوغيرمباشر , وبرغم ذلك يؤكد المؤلف فإن سوء استخدام المال النفطي ليس هو سبب الفشل الاقتصادي إن الفشل الحقيقي هو سوء إدارة الموارد البشرية والاستفادة من طاقاتهم حيث يرى المؤلف أن الدول العربية قد سنت قوانين اقتصادية غير مرنة , ويضرب الكاتب مثالا بتلك المشروعات الضخمة التي قامت بها بعض الدول وكانت دوافعهـا سياسية لا اقتصادية , فشلت كلهـا في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلهـا الحكومات , أممت الشركات الخاصة وأوجدت مشروعات خاصة بها، وتشكلت شركات للدولة تخصصت في نوع معين من الإنتاج، وحددت بعد ذلك حجم المنتج والسعر الذي يباع به، وما إذا كان المنتج للسوق المحلي أو للتصدير, وكانت فكرة الصناعة والإنتاج للإحلال مكان الواردات فكرة جميلة ومغرية على الورق، ولكنها أجبرت الدولة على أن تخصص رأس مال وقوة عمل في قطاعات لا تستطيع المنافسة فيها، وكان الإنتاج للخارج يتم عن طريق التبادل السلعي مع الدول المماثلة (الاشتراكية) دون الحصول على نقد نادر , كل ذلك جر إلى مجموعة من المشكلات الاقتصادية الداخلية منها تدهور سعر العملة الوطنية وظهور السوق السوداء للعملات الصعبة، وعطل من النتائج الإيجابية المرجوة التشابك البيروقراطي والإهمال الوظيفي والوساطة وكل الأمراض الاجتماعية , وفي أماكن أخرى من العالم العربي والتي لم تقيد بمثل هذه القيود نجد هناك معوقات أخرى لها طابع آخر، فرجال الأعمال العرب في معظمهم لا يتوجهون للاستثمار في الصناعة بل يرحبون بالاستيراد ، وهذا راجع تاريخياً كما يرى المؤلف إلى تطور طبقة التجار الذين يرحبون بالاستيراد والتوزيع وأخذ الوكالات للسوق المحلي أو العمل بالمقاولات وفي مجالات في معظمهـا لا تتطلب المخاطرة برأس المال، زاد على ذلك أن المجتمع العربي مجتمع مظاهر وأهم استثمار لصاحب المال العربي في العقار حيث الضمانات كبيرة (فالعقار لا يمرض ولا يموت) وإن اهتمامهم بتطوير الأرض الزراعية هو اهتمام قليل، فالفرات ودجلة يجلبان حجما من الماء بمثل ما يجلبه النيل إلى مصر، إلا أن الاهتمام بالزراعة فيما بين النهرين في حدوده الدنيا ولا يستفاد من الأرض القابلة للزراعة وفي السودان والتي يعتقد الخبراء أنها سلة الخبز ليس للعرب وحدهم بل لمعظم إفريقيا , ولا يوجد بلد عربي لديه قطاع أساسي في الصناعة غير صناعة البتروكيماويات في المملكة العربية السعودية، وصناعة الملابس في تونس والمغرب أما المستثمرون الخواص فلا يستخدمون أموالهم لأسباب إما سياسية أو مزاجية مما جعل الاستثمار الرئيسي يقول به القطاع الحكومي غير الكفؤ المقيد بالقيود البيروقراطية , ويرى معظم العرب هذه الصورة المشوشة من الهزائم والفشل الاقتصادي على أنها وضع غير عادل وغير متوقع وحيث إنه في ذهن كل عربي تاريخ الأجداد العظام وانتصارات السلف الصالح وما سمع وقرأ من مساهمات كبيرة في الحضارة العالمية لهذا كله فإن المسافة بين المأمول والواقع مسافة كبيرة، وهي التي تسبب كل هذا الإحباط , ذلك ملخص لما يريد أن يقوله الكاتب في كتابه وهو بالفعل جولة داخل العالم العربي ماضيه وحاضره ومستقبله وأفضل ما فيه هو الرصد الموضوعي في معظم الأوقات للظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية , وهو يتركنا على مفترق طرق، إما التوجه إلى الأمام عن طريق الإصلاح الاقتصادي والسياسي أو النكوص إلى الخلف لمزيد من الفرقة والتشرذم وربما الحروب.
فلا توجد طرق سهلة للشعوب لاجتياز مشكلاتها إلا بوجود عقول تنير الطريق إلى الأمام .
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها.