أحمد عرابي

أكاديمي سوري

انتصَار الفَرد وهزيمَة الشعب

حرب خاضتها شعوب كثيرة وانتصرت فيها أما الشعوب التي اختارت التقوقع والانكفاء والتمترس في قبو ذاتها المتورمة وتهربت من الاستحقاق التاريخي وفرّت من المواجهة فإنها اندثرت وبادت وأمست أثرا بعد عين. فعند اكتمال المآزق والوصول إلى نهاية الدرب المسدودة وانغلاق الدائرة الجهنمية  تتجلى مقدرة الشعوب على الاستمرار وتجاوز التحديات الحقيقية (الاستثنائية) فإما الحياة, وإما الفناء, فازدياد المواقف القائمة على ردود الأفعال حيث يصبح تهوّر المغامرين إقداما وقوة حسب ظنهم واقع أفرزته ذهنية مسحورة عمياء لا بصر لها ولا بصيرة تلفيقية لا ثبات للمنطق فيها ترى ما تود أن تراه لا ما يتراءى للعيان وتبصره الأبصار وتلمسه البصائر فنحن والشواهد  كثر إن تجارب المجتمعات البشرية وتاريخ الدول يشير إلى أن هذه الذهنية المتشككة المتوجسة المعادية للآخر لا تأخذ بيد أحد إلى النجاح والفلاح. فالكراهية بوابة تفضي إلى الهزيمة لا إلى النصر أيّا كان حجم القوة التي يمتلكها المبتلى بهذه الذهنية المتوجسة المعادية التي تقوم على ثقافة الكراهية والانغلاق على الذات والوسوسة إنها (فوبيا حضارية) جعلت مؤسس الشيوعية في الصين ما وتسي تونج يحث اتباعه على (الحقد الوطني على الأداء) ومثله فعل لينين في موسكو, وقسم العالم إلى قسمين أو (فسطاطين) لا فرق….! ففي مدارس الاتحاد السوفييتي غرست الماركسية بواسطة مناهج التعليم بذور الحقد في عقول الناشئة حيث الكتب تؤكد للطلبة الصغار (أن الشعور الوطني السوفييتي يقوم على الحقد الذي لا يعرف أي مصالحة مع أي معارض للمجتمع الاشتراكي)  والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان, والذي يتراكض في الوجدان: أين انتهى الحقد العقائدي الداعي إلى كراهية الآخر والمشيّد على دعائم الوسوسة والفوبيا الحضارية …? وأين انتهت الشيوعية…? وأي مصير واجهت…? وكيف انتهى المجتمع الاشتراكي…? بل وأين وليّ ذلك الاتحاد السوفييتي بأكمله…? الجواب: إلى زوال. إن عقلا كهذا تحكمه ذهنية كهذه لا يملك أسباب الحياة واستمرارها مهما امتلك من عتاد ومهما أعد ما استطاع من قوة أو تسلح فجنون العظمة والكبرياء لدى الرئيس الروسي بوتين قد يكون الخاسر الأكبر في أزمة أوكرانيا وأنه مثل لاعب بوكر مهووس لا يستطيع التوقّف عن اختبار حظه وفي كل مرة يحصل فيها على بطاقة جيدة لا يسعه سوى رفع الرهان إن هذا ما يفعله بالضبط من خلال تهديد أوكرانيا وقد ينتهي به الأمر بالمبالغة في المراهنة وبخسارة فادحة أزمات سابقة : وقال الباحثان في ذلك إن محاولة بوتين المحفوفة بالمخاطر لزعزعة استقرار أوروبا واستغلالها ليست جديدة على موسكو سبق وأن وضع القادة السوفييت رهانات متهورة أيضًا بدءًا من جدار برلين ومحاولة تجويع برلين الغربية , لقد كانت مقامرة كبيرة ومجازفة قادت الرئيس جون كينيدي إلى تنظيم عملية جسر جوي كسرت الحصار وبدأت في إعادة اندماج ألمانيا على المدى الطويل في بقية أوروبا الغربية وربما كانت أزمة الصواريخ الكوبية أفضل مثال على الرهان السيئ الذي اتخذته موسكو وأدت محاولة وضع رؤوس حربية نووية على الجزيرة إلى الأزمة النووية الأولى التي انتهت بانسحاب روسي مذل وأدى الحادث إلى انتكاسة للعلاقات بين القوى العظمى لسنوات عديدة.

ضم جزيرة القرم : في أوكرانيا، فاز بوتين في عام 2014 بشبه جزيرة القرم ودونيتسك، لكنه خسر الشعب الأوكراني وعزّز الغزو أواصر القومية الأوكرانية  التي لم تكن موجودة في الواقع من قبل كما أدى ذلك إلى قيام كييف ببناء واحد من أقوى الجيوش وأكثرها تصميماً في أوروبا وهو مصمم على مقاومة غزو آخر وفي غضون 10 سنوات استعاد من روسيا ما هو ملك لأوكرانيا.

  ولكن ماذا بعد أوكرانيا: بغضّ النظر عن الطريقة التي ستسير فيها الأمور في أوكرانيا فقد استخدم بوتين مرة أخرى أقوى سلاحين لديه للعبث مع الغرب : القوة العسكرية والطاقة واللتان تمثلان ورقة “كش ملك”.

ورأى الباحثان أنه على حلف الناتو تكثيف الردع التقليدي والاستراتيجي وعلى كل عضو أن يصعّد ويفي بمساهماته الموعودة في الدفاع المشترك علاوة على ذلك يجب أن تكون الولايات المتحدة شريكًا نشطًا في الدفاع الأمامي من بحر البلطيق إلى البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط وأضافا أن المجتمع عبر الأطلسي يحتاج أيضًا إلى مصادر آمنة للطاقة: قطاع خاص للطاقة نابض بالحياة يوفّر طاقة موثوقة وبأسعار معقولة عبر مزيج من صادرات أمريكية قوية واستكشاف وتطوير الغاز الطبيعي في أوروبا والطاقة النووية وحتى الفحم النظيف وخلصا إلى أن أوروبا ليست بحاجة إلى التخلّي عن التحوّل إلى الطاقة الخضراء ولكن يجب القيام بذلك بطريقة أكثر مسؤولية وحكمة لأن محاولة التحوّل مع الاعتماد الكبير على الغاز والنفط الروسيين من شأنه أن يترك أوروبا مفتوحة على مصراعيها للابتزاز بورقة الطاقة .

 وعن زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني : ومن قلب المستعمرة العقابية شديدة الحراسة التي يقبع بها لقضاء عقوبة بالسجن مدتها 9 سنوات، نقل فريقه القانوني مقالاً كتبه نافالني إلى صحيفة “واشنطن بوست” يتحدث فيه عن “كيف تبدو النهاية المرغوبة والواقعية للحرب الإجرامية التي شنها الرئيس الروسي بوتين ضد أوكرانيا

يقول نافالني : إن الغرب يعلم أن ما يفعله بوتين في كييف هو تكتيك استراتيجي إلا أن مشكلة التكتيكات تكمن ليس فقط في غموض الهدف ولكن في حقيقة تجاهل السؤال: كيف تبدو روسيا بعد تحقيق الأهداف التكتيكية …؟ حتى لو تحقق النجاح فأين الضمان بأن العالم لن يجد نفسه في مواجهة نظام بوتيني أكثر عدوانية …؟ وأضاف من السهل التنبؤ بأنه حتى في حالة الهزيمة العسكرية المؤلمة ستبقى في ذهن بوتين أنه خسر ليس أمام أوكرانيا ولكن أمام الغرب وحلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي أطلق عدوانه لتدمير روسيا وشدد نافالني على ضرورة أن تتوقف روسيا عن التحريض على العدوان وعدم الاستقرار وهذا ما يجب اعتباره انتصاراً استراتيجياً في هذه الحرب مشيراً إلى العديد من الأشياء المهمة التي تحدث لروسيا والتي يجب فهمها .

وأوضح زعيم المعارضة الروسية قائلاً: أولاً الغيرة على أوكرانيا ونجاحاتها المحتملة هي سمة فطرية لقوة ما بعد الاتحاد السوفيتي في روسيا كما كانت سمة أول بوريس يلتسين رئيس روسي لكن منذ بداية حكم بوتين وخاصة بعد الثورة البرتقالية التي بدأت في عام 2004 أصبحت كراهية الاختيار الأوروبي لأوكرانيا والرغبة في تحويلها إلى دولة فاشلة هاجساً دائماً ليس فقط لبوتين ولكن أيضاً لجميع السياسيين من جيله وأضاف السيطرة على أوكرانيا هي أهم مادة ملموسة لجميع الروس ذوي الآراء الإمبراطورية من المسؤولين إلى الناس العاديين لأنها إلى جانب روسيا جنباً سترقى إلى مستوى الولايات المتحدة , ثانياً يستخدم بوتين الحرب كوسيلة مذهلة لحل جميع المشاكل وأشار إلى أنه “منذ الحرب الشيشانية الثانية التي جعلت بوتين غير المعروف أكثر السياسيين شعبية في البلاد إلى الحرب في جورجيا وضم شبه جزيرة القرم والحرب في دونباس والحرب في سوريا تعلمت النخبة الروسية على مدار الـ 23 عاماً الماضية قواعد لم تفشل أبداً: الحرب ليست باهظة بل إنها تحل جميع المشاكل السياسية المحلية  بالنسبة لبوتين وتابع ثالثاً : الآمال في أن يؤدي استبدال بوتين بعضو آخر من نخبته إلى تغيير جذري في وجهة النظر هذه بشأن الحرب، وخاصة الحرب على إرث الولايات المتحدة ما هي إلا آمال ساذجة على أقل تقدير رابعاً : الخبر السار هو أن “الهوس المتعطش للدماء بأوكرانيا ليس منتشراً على الإطلاق خارج نخب السلطة بغض النظر عما قد يقوله علماء الاجتماع الموالون للحكومة بحسب نافالني وتابع قالاً إن “الدعاية وغسل الدماغ لهما تأثير كبير ومع ذلك يمكننا أن نقول على وجه اليقين إن غالبية سكان المدن الكبرى مثل موسكو وسانت بطرسبرغ وكذلك الناخبين الشباب ينتقدون الحرب والهستيريا الإمبراطورية إذ يتردد صدى رعب معاناة الأوكرانيين والقتل الوحشي للأبرياء في نفوس هؤلاء الناخبين المتعطشتن للدماء وأشار إلى أنه في محاولة لحل مشاكله الداخلية بدأ بوتين الحرب ضد أوكرانيا، لكن حزب الحرب الحقيقي هو النخبة بأكملها ونظام السلطة نفسه وهو استبداد روسي يتكاثر إلى ما لا نهاية هذا الاستبداد الإمبراطوري الذي تم إنشاؤه ذاتياً هو اللعنة الحقيقية لروسيا وقضية كل مشاكلها لا يمكننا التخلص منه بوجود أمثال بوتين وعصابته المجرمة هذا فعلى العالم التكاتف والتعاون لردع وكبح هذا المجرم المتهور ومحاكمته على جرائم الحرب التي قام بها في كل الدول .

المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها.

%d مدونون معجبون بهذه: