
حسن النيفي
باحث وكاتب سوري
ما بين نظام الأسد والسوريين خصومة سياسية أم وجودية؟
لا يخفي الكثير من السوريين خيبتهم من جميع المسارات السياسية التي قيل عنها في يوم ما: أنها سوف تفضي إلى حلّ يسهم في إنهاء المقتلة السورية، كما يؤدي إلى زوال الطغمة الحاكمة منذ خمسين عاماً ونيّف، ولعلّ ما عزّز خيبة الأمل هذه هو حالة الانحدار الأمني والبؤس المعيشي التي باتت تستبدّ بمجمل مرافق الحياة، دون أن تستثني بقعة من الجغرافية السورية، إلى درجة أصبح فيها الطموح الأقصى للمواطن السوري هو قدرته على حيازة الوسائل والسبل التي تُمكِّنه من مغادرة البلاد، ولو إلى أي بلاد أخرى، فهل أصبحت فرصة الحياة الوحيدة أمام السوريين هي الهروب من بلدهم؟ وحيال هذه الحقيقة الموجعة لا يتردّد الكثير في إرجاع حالة انسداد الأفق في سورية إلى عدم رغبة المجتمع الدولي في إيجاد حل للقضية السورية، نظراً لاستمرار تضارب المصالح الدولية والإقليمية، بل ربما ذهب أصحاب هذا الرأي، ممّن هم أكثر قبولاً لنظرية المؤامرة، إلى أن ما يجري هو تجسيد لمخططات سابقة أعدّتها أطراف دولية لتقويض البلاد السورية بشرياً واقتصادياً وسياسياً. في حين يرى قسم آخر أن عوامل الاستعصاء في القضية السورية هي ذات منشأ محلّي داخلي، تكمن في الكيانات العسكرية والسياسية الرسمية التي فشلت في قيادة ثورة السوريين، وكان من تداعيات هذا الفشل ظهور كل علائم الخراب والفوضى، إضافة إلى بروز سلطات أمر واقع متعددة ، وكلٌّ منها يمارس عسفه وجبروته على السوريين، أصالةً عن مشروعه الخاص أو وكالةً عن طرف دولي أو إقليمي.ولعل ما يجمع بين أصحاب الرأيين المختلفين هو أن كليهما لا يرى سوى المظاهر الناتجة عن الأزمة دون الرجوع إلى مسألتين أساسيتين: تتجسّد أولاهما بالجذر الأساسي للمشكلة، فيما تتجسّد الثانية بسيرورتها، وبالعودة إلى جوهر القضية السورية ربما نجد الفروق كبيرة في النظر إليها حتى من أكثر الناس التصاقاً بها، بل لعلها من المفارقات المحزنة ألّا يتوافق السوريون على فهم موحّد لقضيتهم التي ضحّوا من أجلها جميعاً، إذ ثمة من يرى أن مكمن الخلاف بين الشعب والسلطة الأسدية هو احتكار رأس النظام للسلطة ونزوعه نحو الاستبداد بها، في حين يطالب باقي الشعب بانتزاع السلطة أو بعض منها ليتسنى لبقية الناس المشاركة في إدارة البلاد والمساهمة في صناعة القرار، وربما كانت المعارضات السورية الرسمية بكل تلاوينها وأشكالها هي من يتبنى هذه الرؤية، وبناء على هذا التصور قدّمت المعارضة السورية قضيتها إلى المجتمع الدولي مطالبةً إيّاه أن يتدخل عبر مؤسساته الأممية الرسمية لنصرة وإنصاف السوريين ووضع حدّ لاستبداد السلطة، وكان نتيجة ذلك أنْ صدرت القرارات الأممية (جنيف1 لعام 2012 – 2118 لعام 2013 – 2254 لعام 2015) وجميعها تؤكّد على وجوب عملية انتقال سياسي تفضي إلى كتابة دستور جديد للبلاد ومن ثم انتخابات نزيهة تحت إشراف دولي، وذلك كله عبر عملية تفاوضية بين طرفي النزاع: النظام والمعارضة. وعلى الرغم من مضيّ سنوات على صدور تلك القرارات إلّا أنها ظلت حبراً على ورق. أمّا المسألة الثانية، ونعني بها سيرورة الأحداث منذ عام 2011 وحتى اللحظة الراهنة فقد نقضت وقائعها جميع ما أنتجته الرؤية العامة لجمهور المعارضات الرسمية، إذ إن استهداف النظام للمواطنين بسلاح الطيران وإمطارهم بالبراميل المتفجرة ومن ثم قصفهم بالسلاح الكيمياوي واقتلاع سكان مدن وبلدات وقرى بكاملها وقذقهم إلى العراء ، أي جميع هذه الممارسات تثبت إثباتاً قطعياً أن جوهر المشكلة السورية لا يكمن بخصومة سياسية بين النظام والشعب ولا يكمن كذلك بخلاف حول الدستور وإلى ما هنالك من تفاصيل، بل جوهر المشكلة يكمن في صراع وجودي بين سلطة تفترس الشعب والدستور معاً، وشعب يدافع عن وجوده وحقه في الحياة ولا يطالب بحقوق سياسية فحسب، وبناء على هذه المفارقة فقد استوجب الأمر إعادة النظر في معادلة الصراع من الأصل، فإذا كانت المواجهة بين الدولة الأسدية والشعب السوري خصومة سياسية، فإن سبيل الحل الأمثل هو التفاوض الذي أفضت مساراته جميعها (جنيف – أستانا) إلى الخواء. أما إذا كان جوهر الصراع بين الطرفين هو صراع وجود ، أي بين طغمة تسعى إلى إبادة الشعب، وشعب يدافع عن حقه في البقاء، فإن المواجهة حينئذْ هي مواجهة حقوقية، إذ إن القاتل يجب أن يُقاضى في المحاكم ليقول القضاء فيه كلمته، وليس مكانه في منصات التفاوض، وعلى السوريين – آنئذٍ – أن يطالبوا بمحاكمة مجرم اعتدى على أرواحهم ويحاول الإجهاز على ما تبقى منهم، لا أن يطالبوا بالتفاوض معه ليمنحهم بعضاً من حقوقهم.
ما هو غني عن القول أن فشل المسارات السياسية، وكذلك عدم قدرة المعارضات السورية على تقديم الفحوى الجوهري لقضية السوريين كما ينبغي أن يكون عليه الحال، لا يعني بحال من الأحوال التخلي عن القرارات الأممية أو الدعوة إلى بطلانها، بقدر ما يعني العمل على إيجاد آفاق أخرى من المواجهة تكون فيها القضية السورية في مسارها الصحيح، وأعني المسار الحقوقي، تزامناً مع إيجاد حامل سياسي لإدارة القضية، لأن الحوامل السياسية الراهنة وخاصة الرسمية منها، باتت مصدر خذلان دائم لقضية السوريين ولن تكون – في حال استمرار خذلانها – إلّا عبئاً مضاعفاً من أعباء مأساة السوريين.
لعله من غير الصواب تركيز النظر على قطّاع السياسة والعسكر باعتبارهما من تصدّر واجهة الكفاح ضد السلطة، بل يمكن التأكيد على أن فشل الكيانات السياسية في مقاربة القضية السورية، إضافة إلى انزياح دور الفصائل العسكرية من موقعها الوطني المقاوم إلى الدور الوظيفي، قد يوجب على الفعاليات الأخرى في المجتمع، وفي طليعتها الحقوقيون، سواء أكانوا منظمات أو نقابات أو أفراد، أن يعملوا على توجيه بوصلة الثورة السورية من جديد.
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها