
العميد الركن المجاز
فايز عمرو
أهمية السلم الأهلي من أجل السلام المستدام والاستقرار
علينا أن نتعلم العيش معا كإخوة، أو الفناء معا كأغبياء. ما يزال لدينا خيار اليوم: إما التعايش السلمي أو إفناء بعضنا بعضا بشكل عنيف (مارتن لوثركينغ)
ذلك هو الأمر المؤكد علينا أن نتعلم العيش معا في جو من الاستقرار والأمن والسلم الأهلي تحت سقف الوطن أو نزج بمن تبقى من كوادرنا الوطنية الشابة وأبنائنا وأحفادنا في أتون صراع عبثي لن تكون فيه الغلبة لأي طرف مهما طال امد هذا الصراع ، مما لا شك فيه بأننا شئنا أم أبينا محكومون بالأخوة البشرية ولا يستطيع أحد منا أن يقطع هذه الرابطة الى ما النهاية، ومحكومون بأخوة المواطنة ولن يستطع أحد أن يتنكر لها.
كما نجزم بأن قرابة ستة عقود من الاستبداد والقهر والظلم وعقد من العنف والقتل والتخريب والتدمير وإهدار الكرامة الإنسانية أصبحت كافية لنستخلص منها الدروس والعبر، من الواضح أنه مع ازدياد مستوى ودرجات العنف الذي مارسته
السلطة القمعية ضد شعب طالب بالحرية والكرامة، ومناصرة هذه السلطة من قبل أنظمة إقليمية ودولية، وغياب الموقف الأممي الجاد في مواجمة جرائم الحرب وعمليات التهجير والتطهير العرقي التي تمارسها العصابة الحاكمة تعقدت خارطة الصراع وأضيفت الى المعادلة ظاهرة الميليشيات المسلحة سواء الأجنبية أو المحلية.
وبسبب تقاعس المنظمات الدولية وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي في وضع حد للمجازر المرتكبة قبل السلطة الحاكمة، ازدادت شهية الميليشيات الموالية وانخرطت كليا مع الجيش
والأجهزة الأمنية في حرب التهجير والإبادة. غير أن إطالة أمد الصراع وضخامة الخسائر التي تعرضت لها تلك الميليشيات في مواجهة المطالبين بالحرية الذين لم يكن أمامهم سوى المواجهة البطولية للدفاع عن النفس. أدركت تلك الميليشيات بأنها في الموقع الخطأ والزمان الخطأ، وباتت على يقين بأن العصابة الحاكمة استثمرتها للاحتفاظ بالسلطة المبنية على جماجم قتلاها.
كما أن فصائل المعارضة أدركت ولو متأخرة بأن الحسم العسكري للصراع في ظل الظروف الكائنة أصبح من الماضي، وعليه فإن طريقنا الى الحل النهائي لإنهاء الديكتاتورية التي تسببت في تدمير الوطن وقتل أبنائه من الموالين له والمعارضين على حد سواء لا يمكن أن يتم إلا عبر بوابة الحل السياسي الذي يشكل السلم الأهلي فيه إحدى أهم القضايا الجوهرية المعقدة.
يمكننا القول بلا تردد بأن جميع السوريين اليوم من معارضين في الداخل والخارج وموالين يعيشون في الخارج أو تحت سيطرة النظام المجرم باتوا يدركون تماما بانه آن الاوان في هذه الظروف الاستثنائية أن يراجعوا حساباتهم وبأنهم على مفترق
طرق إما أن يكونوا أو لا يكونوا، الخيار أمامهم لتجاوز القتلة والمجرمين وسماسرة الوطن وجيوش الفاسدين والمفسدين وتجار الحروب الا بالعمل الجاد لإرساء قواعد ومتطلبات بناء السلم الأهلي للوصول الى حالة من الأمن والاستقرار التي لا يمكن أن يتعايش معها أولئك القتلة والمجرمين.
من هنا تنبع أهمية السلام التي تتجاوز أهمية العدالة في الترتيب، لأن السلام لم يخلق من أجل العدالة، بل على العكس خلقت العدالة من أجل السلام. في هذا السياق لا بد من التأكيد مرة أخرى على أهمية السلم الأهلي لأنه بوابة العبور نحو الاستقرار والأمن وقطع دابر العنف والإرهاب وإنهاء الحالة الفصائلية والميلشياوية وصولا الى وئد الديكتاتورية ومنابع تغذيتها.
بطبيعة الحال لم يفشل نظام البعث في إكمال وترصين البناء الوطني للدولة فحسب بل تقصد بناء دولة صورية منقوصة السيادة وفاقدة الهيبة ومرتبطة بشخص الديكتاتور فقط، على هذا النحو تحولت سورية الى مستنقع من الفوضى والفساد والجريمة ووجود مجموعات وظيفية تعلو على القانون وتمارس شتى أنواع الفساد وأحيانا العنف المجتمعي. هذه الأمراض الوظيفية أدت الى تمزيق البنية المجتمعية للبلاد.
جاءت سنوات الحرب المدمرة التي شنتها السلطة القمعية ضد شعبنا وما أفرزته التدخلات الخارجية في الشأن السوري لتضيف الى عامل الاختلالات الوظيفية الداخلية التي تميزت بها دولة البعث عوامل أخرى ذات أبعادا خطيرة جدا أدت الى العبث بالنسيج المجتمعي السوري العام وتمزيق الروابط الاجتماعية داخل المكون الواحد وغالبا ضمن الآسرة الواحدة.
كما هو معلوم بأن مفهوم السلم الأهلي يشير الى رفض كل اشكال القتال والقتل أو الدعوة الى التحريض عليه أو تبريره بمنطق الدعاية أو العقيدة الدينية أو القومية أو الحزبية التي تؤد ي الى انتاج حرب أهلية في المجتمع تقود الى تفسخ بنية ذلك المجتمع، في الحقيقة إن واقع الحال على الأرض السورية يتوافق على نحو لا لبس فيه مع هذه المفهوم، حيث تنتشر اليوم عشرات الميليشيات الإرهابية المتناقضة مع المشروع الوطني وفيما بينها كما تنتشر عشرات الفصائل المسلحة أيضا المتناقضة مع المشروع الوطني وفيما بينها، توجد عدة جيوش تنسب الى الوطنية وهي عاجزة دون تدخل الأجنبي عن مواجهة بعضها البعض وعاجزة عن إرساء أدني
مستويات الأمن والاستقرار في المناطق الواقعة تحت سيطرتها. كما ينتشر السلاح الخفيف والمتوسط في جميع القرى والبلدات والملدن والحواضر خارج سيطرة الحكومات الصورية الأربعة. هذا يعني بأن الدولة عاجزة عن تحقيق السلم الأهلي والأمن والاستقرار ولهذا السبب تبرز أهمية قيادة عسكرية وطنية تقود المرحلة الحرجة من أجل مواجمة استحقاقات لا بد منها في ظل الوضع القائم.
كما يرتبط مفهوم السلم الأهلي بمصطلح التعايش السلمي الذي يعني البديل عن العلاقة العدائية، وإنجاز المرحلة الوطنية التي تتركز على الحوار وتعزيز عملية القبول بالرأي الآخر، ونبذ العنف ولغة السلاح والكراهية والتحريض، وتنمية الآليات التي تجمع ولا تفرق. واحترام مبدأ تكافؤ الفرص. وفي هذا الصدد لابد للقيادة الوطنية من حشد الجهود اللازمة لإرساء قواعد أساسية لا بد منها من أجل تكريس مفهوم التعايش السلمي بين أبناء الوطن على أساس المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات وحماية هذه المكتسبات من خلال تضمينها دستوريا وبقوانين ناظمة، في الحقيقة يشكل السلم الأهلي عملية بناء تتشكل عبر الممارسة وبشكل
تسلسلي وتراكمي من قبل الدولة أو نظامها السياسي التي يشكل السلم الأهلي وفق المنظور التقليدي أحد أهم وظائفها بموجب منطق حق السيادة في استخدام سلطاتها الممنوحة بما يحقق الاستقرار المجتمعي وضمان القيم المكتسبة من اية تهديدات.
لذلك تختلف الدول في التعامل مع حالة السلم الأهلي وفقا لطبيعة وأنماط أنظمتها السياسية وتبعا للممارسات والتوجيهات التي تجسدها تلك الأنظمة ومراحل تطورها وما يرتبط بكل نظام من خصوصية لطريقة اختيار الأفراد ولتفضيلاتهم ومدركاتهم وتنظيم المعتقدات والقيم واحترامها وبالبيئة الداخلية للنظام، بالتأكيد إن جوهر النظم الديكتاتورية سواء الشمولية منها أو التسلطية يهدف الى خلق مؤسسات سياسية جديدة كليا ومرتبطة بها على حساب تدمير التقاليد الاجتماعية والقانونية والسياسية للدولة،
بمعنى تحويل فئات وطبقات المجتمع الى جماهير مندمجة بنظام الحزب الواحد وايديولوجيته وإدارة البشر وتشكيل طبيعتهم وتطهيرهم وحتى إن توجب إبادة أجزاء واسعة من الإنسانية، كما تشهد الأنظمة التسلطية جملة من الكراهيات والعنف
والاقصاء، بالتأكيد هي أنظمة عرضة للانهيار في أ ي لحظة وغير مستقرة، كما أن الثابت في مسيرة تطورها بأنها تنتهي بكوارث وطنية سواء على الصعيد الإنساني أو الجغرافي .وهناك أمثلة كثيرة في عاملنا العربي، سورية، العراق، مصر، ليبيا واليمن، والعديد من الدول الإفريقية والأسيوية.
أما ما يميز النظام الديمقراطي عن النظم الديكتاتورية والتسلطية بكونه نظام تحكمه اجراءات تعبر عن الالتزام بعدد من المبادئ
الأساسية والتي تنبثق عنها مؤسسات دستورية تضمن المشاركة في عملية اتخاذ القرارات وتتمحور تلك المبادئ الأساسية التي تمثل جوهر النظام الديمقراطي في الحكم وعناصره:
1 .احترام مبدأ فصل السلطات الثلاث واستقلالية السلطة القضائية.
2 .الشعب هو مصدر السلطات.
3 .سيادة حكم القانون والدستور.
4 .تطبيق مبدأ المواطنة المتساوية الكاملة.
5 .احترام الحقوق والحريات العامة والخاصة.
6 .تطبيق مبدأ التداول السلمي للسلطة بين الأغلبية والمعارضة.
من هنا يكون النظام الديمقراطي منهجا ضروريا يقتضيه التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وجماعاته وقواه المتعددة للسيطرة
على مصادر العنف ومواجمة أسباب الفتن والحروب الأهلية وانهيار الدولة ، ينطلق نظام الحكم الديمقراطي من أساس أنه إذا
عجز أو لم ينجح المجتمع أو الدولة في تنظيم الصراعات والنزاعات بوسائل سلمية فأنه يتعرض الى مخاطر الانفلات وعدم الاستقرار وتفشي العنف الذي يصل الى الحرب الأهلية المدمرة، لذلك تتعامل الدولة الديمقراطية مع مسألة السلم الأهلي من
خلال أليتين متلازمتين:
– الأولى: من خلال مجموعة من الإجراءات العادلة للمعالجة السلمية لللأمور التي تنظم المجتمع مثل البنية السياسية والاجتماعية لنظام الحكم.
– الثانية: من خلال مجموعات العلاقات الفاعلة بين القوى والجماعات الداخلة في النزاع أو الصراع.
هذا يعني بأن الدولة الديمقراطية يرتكز نظام حكمها على أساس بنيتها بصورة سليمة مع حد أقصى من التعاون في إطار العلاقات الداخلية فيما بين المجموعات والقوى والفعاليات المشاركة ، خلاصة القول تعتبر مهمة إنجاز السلم الأهلي بوابة العبور نحو السلام المستدام والأمن والاستقرار في عموم البلاد، وبوابة العبور نحو منصة العدالة والعدالة للجميع ومن أجل الجميع، كما أنها
المدخل الذي لا بد منه من أجل انجاز المصالحة المجتمعية والوطنية وبناء دولة المواطنة والقانون بمفهومه الإنساني وليس القسري.
وفي هذا الإطار يعتبر تشكيل هيئة وطنية للحقيقة والانصاف والمصالحة وارساء السلم الأهلي ضرورة لابد منها لتسوية ملف الانتهاكات الجسيمة الماضية التي تعرض لها افراد وجماعات من تنكيل وتعذيب وقتل واهدار للكرامة وما تعرض له ذووهم من اضرار مادية ومعنوية منذ السبعينات من القرن الماضي. وهذه الانتهاكات لم تقتصر على مجموعة معينة بل كان شعبنا السوري كله عرضة لها مالم يقدس الطاغية.
كما تتناول الهيئة ضمن مهامها عمليات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والاختطاف .
هذه الهيئة ستكون مساهمة فاعلة لتعزيز مسار المصالحة الوطنية وارساء السلم الأهلي وانصاف المتضررين .