
حسن النيفي
باحث وكاتب سوري
نحو انعطافة متجددة في عمر الثورة
ما من شك بأن أي متابع لسيرورة القضية السورية والمآلات التي انتهت إليها سيقف عند مسألتين اثنتين:
المسألة الأولى تكمن في النزوع الإقليمي نحو الالتفاف على القضية السورية بدافع مصالح سلطوية أمنية بالدرجة الأولى، وهذا ما وجدنا ترجمته الفعلية على إثر زلزال السادس من شباط الماضي، وتجلى في إعادة نظام الأسد إلى الجامعة العربية بمسعى إيراني، وكذلك عودة العلاقات الرسمية لعدد من الأنظمة العربية مع سلطات دمشق، كما نشهد في موازاة ذلك مسعى تركي لإعادة العلاقات التركية مع نظام الأسد منذ شهر آب من العام الفائت، و بدفعٍ روسي واضح.
أما المسألة الثانية فتتمحور حول ردود الأفعال في الضفة الأخرى، أعني في المشهد المناهض للنظام ممثّلاً بالقوى والأحزاب والجماعات السياسية، واقع الحال يشير إلى أننا لم نشهد في الحالة السورية الرسمية إلا مزيداً من الارتباك، فمعظم ردود الأفعال التي أبدتها الكيانات الرسمية للمعارضة كانت مرتبكة ومترددة، ولعل مبعث هذا الارتباك والتردد يعود إلى تخندقها ضمن مسارات إقليمية لا تستطيع الخروج عنها، وأقصى ما فعلته هيئة التفاوض – على سبيل المثال – هو اجتماعها بعد انقطاع دام سنتين، إذ تداعت للقاء عُقد في جنيف في الأول والثاني من الشهر الجاري، وأنهت لقاءها بترديد شعار التمسّك بالقرار الدولي 2254 .
إذاً هناك شبه إجماع عربي وإقليمي على تجاوز قضية السوريين وغض النظر عن المأساة السورية المتجددة باستمرار، بمقابل موقف دولي يمكن تسميته بالرافض لفكرة تعويم الأسد، كما يمكن اعتباره بالمناهض لغض الطرف عن جرائم الأسد بحق السوريين، ولكن هذا الرفض الأوربي الأمريكي يبقى بلا فاعلية حقيقية طالما بقي في الحيّز الإعلامي ولم يترجم بخطوات عملية.
وحيال هذا المشهد القاتم والمخيف لا نجد في الحالة السورية ، لا على المستوى الرسمي ولا على مستويات أخرى، محاولات فعلية جادة للتصدّي لمشروع التطبيع وتسويق الأسد، ولا محاولات جادة للحفاظ على القضية السورية، وصونها من الاندثار والتمييع، بل ما نجده هو حالة واحدة تكاد تميل إلى النمطية والابتذال في كثير من الأحيان، وأعني بذلك ارتفاع صوت الجميع مطالباً بالتمسك بالقرارات الأممية وخاصة 2254 كونها الضامن الحقيقي لحقوق السوريين، علماً ان الجميع يدرك في قرارة نفسه ان نظام الأسد لن يلتزم بتنفيذ أي قرار أممي على الإطلاق، بل يمكن القول: إن الاكتفاء بالمطالبة بتنفيذ القرارات الدولية لم يعد يقلق النظام كثيراً، بل يتيح له مزيداً من الوقت للمناورة ومشاغلة المجتمع الدولي، كونه يشارك في لقاءات اللجنة الدستورية ويحاول الإيحاء للعالم بأنه ليس ضد العملية السياسية.
والسؤال الذي يلحّ في الذهن باستمرار هو: أليس ركون المعارضات السورية بكل أشكالها وأطيافها إلى الاكتفاء بالمطالبة بتنفيذ القرارات الأممية بات يتماثل مع موقف نظام الأسد من تلك القرارات ذاتها؟ ألم تعد المطالبة بتنفيذ القرارات الأممية حالة مماثلة لمطالبة الأنظمة العربية لإسرائيل بتنفيذ القرارين الدوليين 242 و 338 بخصوص القضية الفلسطينية؟ لا شك انها حالة تحيل إلى موات تدريجي لقضية شعب هي من أكثر القضايا عدالةً ومشروعية.
ومن هنا أجد الأهمية التي تكتسيها المبادرة التي أطلقها المجلس العسكري السوري، من حيث كونها تجسّد اختراقاً للحالة الراكدة من جهة، وكذلك من حيث كونها ردّاً على المساعي العربية والإقليمية في تجاوز المأساة السورية والالتفاف على قضية السوريين.
جوهر المبادرة فيما أعتقد يكمن في الدعوة إلى تجاوز الصيغ النضالية التقليدية غير المجدية، والسعي إلى إيجاد صيغ متجددة تتيح للسوريين جميعا المشاركة في العمل ، ولعل هذا ما عناه المجلس بفكرة ( حركة التحرر الوطني) التي لا أرى دلالاتها محصورة بكونها حركة مسلحة، بل يمكن ان تشمل جميع أشكال الحراك بما في ذلك الاحتجاجات والإضرابات ومجال الإعلام وحتى حالات العصيان المدني. ولعل الانتقال إلى هكذا سياقات نضالية يسهم في انتزاع القضية السورية من الوصايات الإقليمية والدولية أولاً، كما يسهم في تحرير القضية السورية والقرار الوطني من أيدي المنتفعين والمعتاشين على مصائب السوريين واستمرار معاناتهم.
ولعل مفهوم ( حركة التحرر الوطني ) يفضي إلى فكرة أخرى لا تقل عن الأولى أهمية، وأعني عدم التعويل الكلي على المجتمع الدولي، وتبديد الوهم الذي ساهمت العديد من النخب في تكريسه بأذهان السوريين، بل وروّجت لحالة من العطالة والعدمية حين حاولت الترويج لفكرة عدم جدوى أي جهد أو مسعى سوري بعيداً عن الإرادات الخارجية وأشكال الدعم والتمويل، ولعلها بهذا الترويج كانت تسهم هي الأخرى في تعزيز مفهوم الارتهان والترويج له، بينما واقع الحال يؤكّد أن بواعث المجتمع الدولي في التحرك هي عمل السوريين ومبادراتهم، أي إن الفعل السوري المُبادر هو الجاذب والمُحفّز للمجتمع الدولي وليس العكس.
وبعيداً عن وجود الحوامل القادرة على النهوض بهذه المبادرة التي طرحها المجلس العسكري او عدم وجودها، فإنها على كل حال دعوة للعمل واستمرار الكفاح السوري من أجل التغيير، بل لعلها تجسيد فعلي للجانب الإبداعي الخلّاق في الثورات، وكذلك تجسيد لتجدد الوعي القادر على استيعاب الواقع والتعاطي معه وفقاً للمستجدات والتغيرات المستمرة، كما ان نجاح هذه الحركة مشروط بقدرتها على تحقيق حالة من الإجماع الوطني، إذ إن حركات التحرير ليست كيانات إيديولوجية منغلقة قوامها التجانس الكلّي في الفكر والمعتقد، بل هي فضاء نضالي قابل لاحتواء أطياف وطنية ذات انتماءات وأعراق متعددة، وهذا كله يوجب البدء بمرحلة أو انعطافة جديدة في الثورة ، تستمد مقوّماتها من أفكار السوريين وتنهض بها إراداتهم وسواعدهم جميعاً، بعيداً عن سطوة الأجندات الدخيلة والمال الوافد والدعم الزائف .
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها