
حسن النيفي
باحث وكاتب سوري
تلازم المسارين – الحقوقي والسياسي ضرورة واجبة
انطوت سيرورة نضال السوريين في مواجهة نظام الأسد طيلة اثنتي عشرة سنة خلت على مفاصل ومنعطفات شديدة التعقيد، وقد انتهى هذا المسار النضالي إلى نتيجتين متباينتين، تحيل الأولى إلى أن عدالة القضية السورية ونبل مقاصدها تزداد رسوخاً على الرغم من التضحيات العظيمة التي قدمها السوريون وما يزالون، وأن الواقع المأسوي الذي عزّزته وحشية نظام الإبادة وإصراره على الاستمرار في منهج الاستئصال والقتل لن يحجب أبداً مشروعية استمرار الثورة، بل يوجب الاستمرار في التفكير والعمل معاً على أن تكون ثورة السوريين مواجهة مفتوحة بين شعب يدافع عن حقة في الوجود والحياة بكرامة، وطغمة غاشمة لا ترى سبيلاً لبقائها سوى باستمرار الإجرام وديمومة شقاء السوريين، ولعل هذه المسألة التي تحوّلت إلى حقيقة ناصعة، باتت برهاناً شديد الوضوح على ان ثورة السوريين في مواجهة السلطة الأسدية لم تكن محكومة ببواعثها السياسية التي ترمي إلى تحقيق مكاسب محددة أو الاستئثار بموقع سلطوي هنا أو هناك، وإنما هي مواجهة وجودية ذات بواعث حقوقية في الصميم، فنظام الأسد كما يعبر عن ماهيته اليوم، لم يخطىء بحق السوريين لأنه تجاوز على بعض حقوقهم فحسب، بل لأنه يستهدف استئصالهم بأشكال متعددة، تتراوح بين القتل المباشر والتهجير والاعتقال والترويع، مقابل بقائه واستمراره في السلطة، ولا شك ان إصرار السوريين على استمرارهم في هذه المواجهة هو إصرار على الدفاع عن حقهم في الوجود الذي لن يكون مفارقاً لكافة الحقوق التي تكفل لهم كرامتهم وإنسانيتهم.
في حين تحيل المسألة الثانية إلى أن عدالة القضية ومشروعية الحقوق التي اقترنت بإخلاص الشعب الثائر وسخائه في التضحيات، واكبها خذلان السياسة التي لم تُخلص العمل من أجل تحويل المُنجز الثوري إلى مواقف سياسية رابحة توازي التضحيات العظيمة للشعب السوري. بالطبع لم تكن مصادر الخذلان السياسي وبواعثه خافية على أحد، بل يمكن الوقوف بيسر كبير على جميع المشاهد الخاذلة للثورة، سواء أكانت الجهة التي وراءها دولية أو إقليمية أو محلية، ولم يعد تفصيل الحديث عن المؤامرة أمراً مجدياً طالما أن عوامل استنبات جميع أشكال المؤامرات ما تزال تزخر بها الأرض السورية، ابتداءً من سلطات الأمر الواقع بأشكالها وانتماءاتها المختلفة، أو من خلال الكيانات التي فرضت ذاتها على تمثيل السوريين حتى تمكنت من إتقان دورها الوظيفي، ثم ها هي ما تزال تعلن تحدّيها السافر لتطلعات السوريين ، كما تؤكّد بأن الأسد ليس الوحيد القادر على قهر إرادة الشعب السوري، بل صنوه ممن يدّعي خصومته أيضاً، وهكذا بات مصدر العسر في قضية السوريين يكمن في كونها إشكالية مركّبة، طرفها الأساسي هو السلطة الأسدية، ثم تأتي المعارضات الرسمية بأشكالها السياسية والعسكرية، والتي لم تعد طرفاً يُعوّل عليه في البحث عن حلول بقدر ما باتت جزءًا من المشكلة، ويمكن تبيان ذلك بجلاء تام من خلال المسارات السياسية الخادعة التي تناوب على إدارتها النظام ومعارضاته وأنتج الطرفان مقولات تتنافر في ألفاظها وصيغها ولكن تتفق في المضامين.
لعل القول : إن نظام الأسد استبدادي ويتجاوز على الحقوق السياسية للشعب السوري، لهو ام لا يضير الأسد ولا يزعجه، ولم تكن القرارات الأممية ( جنيف1 – 2118 – 2254 ) مصدر قلق لحاكم سوريا، فهو قادر على التعاطي معها بكل جدارة، طالما أنها لا تشير إلى مكمن العلّة الجوهرية لديه، إذ إنها في النتيجة تجسد وصفةً خاطئة لتشخيص خاطئ، ولكن ما يثير حفيظة الأسد ويستثير كل نوازع الشر لديه هو حين يعيد السوريون قواعد المجابهة وفقاً لتشخيص دقيق وصادق لا مواربة فيه ولا خداع، إذ يمكن التأكيد ببساطة على ان الثورة السورية إنما تتأسس على بواعث حقوقية أخلاقية بالدرجة الأولى، ومسألة الحقوق تُعالج لدى المرجعيات القضائية التي لا تقف عند التداعيات العارضة لما حدث فحسب، بل تسعى لمحاكمة ومحاسبة الجهة الفاعلة، ولعل هذا ما يجعل النظام الأسدي لا يبدي كبير اهتمام لكل الإدانات الدولية لإجرامه، بقدر يقف كالملدوغ من مجمل المساعي القانونية التي تسعى لتقصي إجرامه، ابتداءً من قانون قيصر الذي يعد الوثيقة الأبرز لقضية ضحايا السجون، مروراً بكل الدعاوى التي رفعها ناشطون حقوقيون سوريون على أركان النظام لدى المحاكم الأوربية، وليس انتهاءً بما سيصدر عن محكمة العدل الدولية التي ستعقد في التاسع عشر من تموز الجاري في أمستردام بمساع قامت بها كندا وهولندا استناداً إلى قيام نظام دمشق بالتعذيب والترويع الممنهج لشعبه.
ما يمكن تأكيده هو ان المسار الحقوقي في مواجهة نظام الإبادة الأسدي لن يكون الأداة او الوسيلة المجردة للاقتصاص من الجناة، بل لا بدّ له من رافد سياسي، باعتبار ان الحراك الحقوقي هو مُنتج ثوري، وحتى يكون موجب الاستحقاق بالفعل ينبغي أن يتحوّل من حيز الحق المجرد إلى حيز الحق بالفعل، وهذا لن يتم دون رافعة سياسية توازي في نظافتها وإخلاصها للروافع الحقوقية، وبالتالي فإن المنطق السليم يحيل إلى ضرورة تجاوز مجمل الأطر السياسية الوظيفية والعمل على إيجاد أطر جديدة تنبثق من الإرادة الشعبية وتجسّد تطلعات الثورة ولا تبقى تلوك خواء الإيديولوجيا وتخرّصات المنتفعين والمتسلقين، وهذا الإطار الجديد هو ما نعنيه ب ( حركة التحرر الوطني) التي تتأسس قبل كل شيء على فهم صحيح ودقيق لماهية القضية السورية، ومن ثم تعمل وفقاً لبرامج تستمد محتواها من تطلعات السوريين وليس مما يريده الخارج الإقليمي والدولي، وكذلك تعتمد في عملها على آليات يبدعها وعي السوريين وتفكيرهم الحر والمتجدد.
لقد عجزت الكيانات السياسية الوظيفية طيلة السنوات السابقة عن ان تكون موجهاً رشيداً لأي حراك عسكري سوري نظيف، كما عجزت البنادق المرتهنة وغير النظيفة في أن تكون الداعم والرديف لأي إطار سياسي نظيف، فهل ستكون حركة التحرر الوطني بتماهيها مع المسار الحقوقي التعبير الأكثر جلاء عن تطلعات ثورة الحرية والكرامة.
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها