
الدكتور محمد حبش
مفكر اسلامي
حق العودة
ليس مصطلح حق العودة غريباً فقد استخدمه الفلسطيني الشريد منذ عشرات السنين ومعظمنا شارك يوماً ما في فعاليات حق العودة الذي كان يوجه الرسائل للعالم ويرفع يد الفلسطيني الختيار وهو يحمل مفتاح بيته، يطالب العالم بالانتباه إلى مأساته والاعتراف بحقه، دون أن يجد في العالم سميعاً ولا شفيعاً.
ولكن الغريب فيه أن يكون شعاراً نوجهه لإرادات ظالمة ترفع العلم الوطني وتنصب عساكرها تترصد على الحدود، تنتظر العائدين، وتتوعد الآفلين، تنشر بساط الرعب في وقت يحتاج فيه السوري إلى الأمان والطمأنينة حتى يتمكن من العودة إلى بيته وأهله وداره ويبدأ الحياة من جديد.
توقعته أن يقول لقد اخترت أكبر طائرة وجئت بها الى القمة العربية لأعود بكل السوريين الذين يحبوينني والذين يكرهونني، فالبلد لن يقوم إلا بالجميع ولا معنى له إلا بألوانه المتعددة.
وتوقعته أن يقول: لقد ارتكبنا جميعاً أخطاء كبيرة، ووصلنا إلى هذه الهاوية، وعلينا أن نتعاون في القيام من عثارنا، والنظر إلى المستقبل.
وتوقعته أن يقول كلنا بشر، وحرب مجنونة كهذه تؤدي إلى توحش الإنسان، وعلينا أن نعيد إليه إنسانيته، ونعترف بأخطائنا وخطايانا، فالبلد منكوب ومنهار ولا يمكن أن يقوم إلا على يد أبنائه.
ولكن يبدو أن المسار السياسي منفصل تماماً عن الإنسان، وأن السياسة باتت مكاسرات بلا روح، يتبارز فيه السلاح بالسلاح وينسحق فيها الإنسان.
حين طرحنا قبل أشهر فكرة حق العودة واجهنا انتقادات شديدة ولكن أشد هذه الانتقاد واجهناها من أهلنا في الداخل الذين اعتبروا موقفنا هذا ازدراء بالمأساة وتسخيفاً للوجع، وكتب إلي عشرات منهم: تتسابقون للعودة، وتنظمون حق العودة، نظموا لنا حق الرحيل، حق الخروج، نحن مستعدون لترك الجمل بما حمل، والرحيل في الأرض إلى اللامكان، فلا يوجد مكان يهان فيه الإنسان أكثر من هذا، لقد بات راتب الأستاذ الجامعي لا يتعدى خمسة عشر دولاراً في الشهر وهو رقم لا يمكن تصوره حتى في أفقر دول العالم!!
كل المؤشرات تقول إن من يتحدث في حق العودة منفصل عن الواقع فلا ضمانات ولا خدمات ولا ظروف حياة، وهذه بالطبع ليست دعاوى المعارضة، لقد ذكرها الرئيس نفسه في لقائه على سكاي نيوز وتحدث بنزق كما لو كان عضواً في تنسيقية دوما أو القلمون قائلاً إلى أين سيعود اللاجئون: لا ماء ولا كهرباء ولا صحة ولا تعليم، العودة انتحار!!!
سوريا لن تقوم إلا على أكتاف أبناءها، هذا هو قدر الحياة وسنة التغيير، أما الاستثمار الذي ينقذ سوريا فمن المستحيل أن يأتي المال الوافد إذا كان المال المحلي هارباً مرتحلاً، وإذا كان السوري لا يأمن على ماله ولا استثماره، في ظروف كهذه هناك نوع واحد من المال يمكنه أن يستثمر في البلد وهو مال الحرب الذي يستثمر في المغامرة والمخاطرة والحرب، والذي يقوم على قواعد من الفساد الأسود، ومن المستحيل أن يعود على الناس بأي طمأنينة أو خير، وهو مال يتاجر بالوجع، ويبتغي الربح على مذابح الناس وآلامهم ولا يبالي بنكبة منكوب ولا بجوع جائع ولا بدمعة مكلوم.
أليس محزناً أن تشاهد بلداً تم تحطيمه بالكامل وسقط فيه مليون بين مفقود وشهيد ونزح منه عشرة ملايين ونكبت البلد بأسرها، وبات على تراب سوريا ستة جيوش نظامية ومئات الميليشيات التي لا تعترف بأحد ، وتنقسم فيه الأرض السورية بين أربعة أقاليم متلاعنة، وأقاليم أخرى تغلي على موجة من البارود، كم هو فجور وعهر أن نتحدث بكل فحش عن الانتصارات؟
في لحظة الموت هذه لا يستعرض النصر إلا لئيم خاوي القلب، وأي نصر على مآسي الثكالى والأرامل واليتامى؟ وأي نصر نتحدث عنه؟ لقد كانت الجولان مسلوبة لدى المحتل، ولكننا اليوم فقدنا ستة عشر ضعفاً لأرض الجولان، وباتت مصائر السوريين تحددها بنادق أستانة وموسكو وطهران.
هل يستطيع خطاب العودة أن يلم القلوب من جديد لبناء سوريا المنكوبة، وهل سيدرك هذا النظام أنه بأسلوبه هذا لن يزيد إلا في تفتيت الوطن وتدميره، وأن أصدقاءه الذين (أحسنت القيادة اختيارهم بدقة) متخصصون بالحروب ولا شأن لهم بالسلام، وأن الشيء الوحيد الذي يمكنهم تقديمه هو السلاح، وهي الخدمات الأساسية التي تمنع قيام سوريا وتغتال عافيتها وتخنق حياتها، وتجعل الماساة قدراً لعيناً على الشعب المنكوب.
نعم إنني مع تأسيس جمعيات حق العودة في كل مكان، ومع قيام السوريين بالمطالبة ببلدهم وأرضهم ووطنهم، وكل يوم يمضي في هذه التغريبة السورية الرهيبة بدون حلول فهو مؤامرة على سوريا وعلى شعبها الصابر.
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها