صفاء شاوي

اكاديمية سورية

هل انهزمت القيم الإنسانية..؟

إن التسليم بهذا الواقع الذي نراه من حولنا مجسداُ ملموساُ هو في الوقت ذاته اعتراف بأن الدوافع الذاتية لحكام الطغاة وأكاد أقول حب السلطة والأنانية الذاتية  ما زالت هي الأقدر على قمع الشعوب  و قتلهم إذا لزم الأمر وهي حقيقة مؤلمة ولكن لا سبيل إلى إنكارها ويؤدي الاعتراف بهذه الحقيقة إلى إعادة تقييم أساسية لذلك الانتصار الساحق الذي أحرزه المشروع الفردي للطغاة والذي يهلل له حكام العرب في هذه الأيام وتجسد ذلك بإعادتهم إلى حضن سيدهم الطاغية الأكبر بشار الأسد الذي قتل مليون إنسان من شعبه واعتقل بسجونه أكثر من مليون وشرد أكثر من خمسة عشر مليون داخل وخارج سورية ودمر البلاد وباعها للاستعمار الروسي والإيراني وشاهدنا كيف احتفل الطغاة بسيدهم وكيف تم الترحيب به وكأنه بطل منتصر وحصل على كرت البراءة على كل ما فعله  وكان اجتماعهم بجدة بصمة عار وتآمر على الشعب السوري المظلوم ورسالة إلى كل الشعوب العربية التي تطالب بالحرية والعدالة والديمقراطية وتريد إسقاط الطغاة في أوطانهم بأنه سيكون مصيرهم كمصير الشعب السوري الذي ثار على سيدهم ومعلمهم بشار الأسد  ولكن إذا كان هذا التحول الحاسم الذي طرأ على القضية السورية في هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها الشعب السوري من مصاعب وتذمر وعنصرية من قبل الدول المتواجدين فيها أليس هذا إعلاناً مدوياً عن انتصار القيم الفردية للطغاة ؟ أليس من المحتمل أن تكون هزيمة للإنسانية ..؟ في هذا الاتجاه كانت تسير فلسفات ما يسمى بالجامعة العربية لدعم كل حاكم طاغية علماً أنها لم تقدم للشعوب العربية غير شعارات الذل والعار ولم تستطع حل أي مشكلة عربية وذلك منذ بداية تاريخها حتى يومنا هذا ولقد كشفت الأحداث الأخيرة عن الفكر الأيديولوجي الذي سيطر على عقول هؤلاء ردحاً طويلاً من الزمن فقد مارست هذه الأنظمة القمعية منها وبوجه خاص في سورية منذ عهد الطاغية حافظ الأسد إلى عهد ابنه المجرم بشار الأسد وأنها تصورت في سبيل تحقيق الهدف ينبغي أن تسحق الفرد وتنكر الحريات الأساسية وتجعل السلطة الحاكمة في المجتمع أداة للقمع تقوم على إملاء الأوامر لا على التعبير الصادق عن آراء القاعدة الواسعة من المواطنين وهكذا كانت تلك روحاً جماعية مفروضة من أعلى ولم تكن تمثل تطوراً طبيعياً تعلو فيه الإنسانية على مستوى الفردية المتمركزة حول ذاتها ومن هنا جاء رد الفعل عنيفاً فور أن سنحت الفرصة وعادت الفردية المسحوقة لكي تؤكد نفسها بإصرار وبمبالغة شديدة في بعض الأحيان وهو أمر متوقع في كل رد فعل ينتقل من النقيض إلى النقيض غير أن الأمر الذي لا ينتبه إليه الكثير من الطغاة في البلاد العربية هو أن الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية هي القيمة الأساسية التي يرتكز عليها بناء المجتمع فالحرية في المجال الاجتماعي والسياسي هدف رفيع يسعى إليه الجميع والدعوة إلى حرية التعبير عن الرأي وحرية المعرفة وحرية الاختيار والرفض والانتماء ونستطيع القول إن حصول المرء على حريته في التفكير والتعبير والنقد واختيار ممثليه الحقيقيين هو عنصر أساسي لا تكتمل بدونه حقوقه كإنسان ونحن اليوم نشهد انقشاع الوهم والتطور الأيديولوجي للبشرية ذلك الفصل الذي اكتشف فيه الناس الخطأ الأول اكتشافاً مدوياً فالعصر الذي نعيشه هو عصر انقشاع وهم كبير فرضت على الناس فيه سياسات كبتت كل نزوع خلّاق للفرد نحو الخروج عما هو نمطيّ ومألوف بأنه لن يستطيع التعبير عن رأيه وأقواله إلا إذا أصبح مطيعاً للنظام الطاغية ولم يحد عن الخط المرسوم، وأقول إن هذه  المرحلة التي نعيشها الآن والتي تمثل تحولاً أساسياً في تاريخ ثورات الربيع العربي وخاصة في سورية بأن هذه ليست المرحلة الأخيرة فما زال في القصة على الأقل فصل واحد وهو ذلك الذي يكتشف فيه الناس بالطريقة المدوية نفسها خطأ من تسلقوا الثورة ونصبوا أنفسهم قادة وممثلين وأوصياء على الشعب الذي ضحى وقدم الكثير في سبيل حريته وكرامته وجاء هؤلاء ليكونوا أكثر أنانية وحقداً وتآمراً على الشعب من أجل المكاسب وجمع الثروة والمال والمهم أن لا نترك الحكم على المستقبل البعيد من خلال ما حدث في الفترة الماضية ونسقط كل هؤلاء العملاء والخونة للشعب وللثورة السورية فالقصة لم تتم فصولها بعد وأغلب الظن أننا سنشهد بعد زمن يطول أو يقصر فصلاً آخر ترتفع فيه أصوات هؤلاء المتسلقين والانبطاحين برفقة الاحتلال الروسي والإيراني وكذبة سوتشي واجتماعات أستانا وكذبة اللجنة الدستورية التي أكل عليها الدهر من خداع وكذب ودجل ونفاق على الشعب وها نحن اليوم نرى سقوط كل هؤلاء ومنصاتهم ، نعم إنه المشروع الفردي الذي يخصهم ولا يمت للشعب والثورة السورية بشيء ولا بأية صلة كانت  وباعتقادي أن سقوط هذا النظام الطاغية الذي شاعت تسميته “بالنظام العبثي” كان وما زال أمراً حتمياً وذلك لاتساع الشقة بشكل كبير جداً بين القوة المسيطرة في الدولة  وبين جماهير الشعب  التي يفترض  نظرياً أن كل شيء يتم لحسابها وكانت المسافة شاسعة بين القيم التي تدعو إليها الكتابات والنظريات وبين واقع الحياة الذي يعيشه الإنسان في سورية ولكن السيطرة البوليسية وفروع المخابرات المرعبة التي تنتشر في كل أنحاء سورية في المدن والقرى والأرياف هي كانت تحول دون قيام جماهير الشعب بالتعبير عن آرائها الحقيقية والنقد والقضية التي أود أن أؤكدها والتي يختلف فيها رأيي عن كثير من الآراء الشائعة في هذه الأيام هي أن سقوط هذه الأنظمة المستبدة لم يكن راجعاً إلى أنها مخالفة “لطبيعة الإنسان” ففي اعتقادي أن من الخطأ الشديد تثبيت مجموعة من السمات أو مبادئ السلوك وتأكيد أنها هي التي تشكل “الطبيعة البشرية”؛ لأن جوهر هذه الطبيعة هو التغيير من أجل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية ومن ظن أن الباطل سينتصر على الحق فقد أساء الظن بالله وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ )) فهل فعلاً انهزمت القيم الإنسانية ؟ إذا كان هذا التحول الحاسم الذي طرأ على العالم هو إعلاناً مدوياً عن انتصار القيم الفردية للطغاة في هذا العالم وخاصة في البلاد العربية أليس من المحتمل أن تكون فيه هزيمة للإنسانية ..؟ إنني أعتقد أن قيماً إنسانية رفيعة قد رفعت الراية البيضاء وأعلنت استسلامها دون قيد أو شرط  وأقصد هنا جميع الدول العربية والإسلامية قادة وحكومات ومنظمات وجمعيات كجامعة الدول العربية التي منحت السفاح المجرم بشار الأسد صك براءة مع اعتذار له وصرح أحمد أبو الغيط أمين الجامعة بأن سورية انتصرت على الإرهاب وبارك لبشار الأسد بالنصر الذي حققه ، هذا الاتجاه العام للحكام العرب قد سجل بالطبع في ميادين السلوك الأخلاقي والاجتماعي والإنساني والمعنوي  اتجاهاً عاماً لا تخطئه العين بأنهم لا يقلون أخلاقاً ووحشيةً وطغياناً عن بشار الأسد أبداً فهو فعلاً معلمهم وشيطانهم الأكبر، إن التسليم بهذا الواقع الذي نراه من حولنا مجسداً ملموساً هو في الوقت ذاته اعترافاً بأن الدوافع الذاتية للطغاة هي الأنانية وحب السلطة والتسلط على الشعوب ما زالت هي الأقدر وهي حقيقة مؤلمة ونقول فعلاً انهزمت القيم الإنسانية وأكبر دليل المأساة السورية.

المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها

%d مدونون معجبون بهذه: