الدكتور محمد حبش

مفكر اسلامي

السويداء – الموحدون الدروز – هتاف العقل والروح

يعيش السوريون اليوم على إيقاع الهتاف الثائر في السويداء الغاضبة والتي باتت تقدم أوضح صورة للغضب الشعبي في سوريا ضد الفشل المستمر للنظام البائس في حملته القمعية ضد الشعب السوري المستمرة منذ ثلاثة عشر عاماً.

ويتابع السوريون كل يوم حراك السويداء الثائرة وأعلامها الجميلة للتعبير عن الشعب السوري وحضاراته المتعاقبة وبشكل خاص علم المذهب الديني الدرزي بألوانه المتعددة الأصفر والأحمر والأخضر، فما حقيقة هذه الشواهين الوطنية السورية التي لا تعيش إلا في أعشاش النسور من الجبال العالية؟

بدأت قصة الدروز الموحدين قبل ألف عام أيام الحاكم بالله الفاطمي وهو العصر الذي شهد ذروة التفوق الحضاري المصري في التاريخ، بعد أن بسطت الخلافة الفاطمية راياتها من المغرب إلى مصر إلى الشام إلى اليمن وصارت الخطبة في الحرمين الشريفين للخليفة الفاطمي القادم من آل بيت النبوة.

ويجب أن نشير هنا أن الخلافة الفاطمية تعرضت باستمرار لتشويه متعمد من خصومها المتعاقبين وأحبر كثير من المؤرخين على تسميتها بالدولة العبيدية الخبيثة في تزوير مخجل للتاريخ الفاطمي الموصول سبباً ونسباً بالرسول الكريم وأهل بيته الأطهار.

أما الخليفة الحاكم فقد تعرض أيضاً لتشويه كبير في وعينا التاريخي، وتم وصفه بادعاء الألوهية وطمس الشرائع، ومع أن الرجل كان يتصف بالتناقض والمزاجية ولكن يجب القول إنه كان حاكما بارعاً وسياسياً حاذقاً، وقد قاد مصر في فترة بالغة الأهمية لأكثر من أربعين عاما.

في عصر الحاكم الفاطمي ظهرت فرقة من الشباب المتحمس نسبوا لنشتكين الدرزي فصار اسمهم الدروز، وحملت الطائفة أفكاراً متعددة منها الانفتاح على الديانات والمذاهب، والتأويل الباطني للقرآن ومنح دور أكبر للعقل في الشريعة، وحظيت الحركة بدعم الحاكم الفاطمي، ولكن نشتكين اشتط به الحال فصار يتحدث عن صفات إلهية في الحاكم وذهب في الغلو مذهباً بعيداً حتى انقلب عليه أصحابه وقتلوه وبايعوا الأمير حمزة بن علي الزوزني الذي صار مؤسس المذهب الحقيقي.

قامت الحركة بدور فعال في مصر وكان بالطبع يتناقض مع الرؤية السلفية القائمة على ظواهر النصوص وقد أثار هذا غضب الفقهاء في مصر، ولما مات الحاكم نجح هؤلاء في التأثير على خليفته الظاهر الذي مشى في رضا العامة وبطش بالموحدين الدروز بطشاً شديداً وطاردهم في البلاد حتى وصلوا إلى جبال كسروان والشوف في لبنان وامتنعوا فيها، ومع ذلك فلم تتوقف جيوش الفاطميين والأيوبيين والمماليك من بعدهم في مطاردتهم والتضييق عليهم مما زاد في غربتهم عن العالم الإسلامي .

وفي مرحلة لاحقة وفي غمار الصراع المملوكي المغولي استغل المتشددون الموقف ضد الأقليات وظهرت فتاوى تكفير لئيمة ضد هم، وكان من أشهرها فتاوى ابن تيمية الحاقدة التي طالت سائر الطوائف الإسلامية التي لا تلتزم مذاهب السنة الحنابلة، ولم يكتف ابن تيمية بتكفير الدروز بل استطاع إقناع الناصر بن قلاوون بدعمه لتأسيس شركة مسلحة على غرار فاغنر وقادها بنفسه إلى جبال كسروان لقتال الدروز الأمر الذي تسبب بإهراق دماء كثيرة وبالتالي بمزيد من التباعد بين الدروز ومحيطهم الإسلامي.

ويختار الدروز العلم ذا الخمسة ألوان التي ترمز إلى العقل، والنفس، والكلمة، والسابق واللاحق، وهي أشكال من تعدد الرؤية للحقيقة الواحدة ويعتبرون أن كل مرتبة منها يمثله فقيه في موقع متعاقب وأعلى المبلغين النطقاء وهو مقام النبوة الأولى ثم مقام الأوصياء الذين عهد الأنبياء لهم بالرسالات، ثم مقام الأئمة والحجج والدعاة، وربماعبروا بالألوان إياها عن الأنبياء الخمسة وهم آدم ونوح وشعيب ويسوع ومحمد، أو عن الصحابة الخمسة سلمان والمقداد وعمار بن ياسر والنجاشي، أو عن الأئمة الخمسة اسماعيل وحمزة بن علي والسموقي ومحمد الكلمة وأبو الخير.

وفي القرن الثامن عشر والتاسع عشر تعرض الدروز أيضاً لحملات داعشية باطشة من حركات متطرفة خلال محامل الحج حيث قتل في إحداها مائة وعشرون حاجاً من أبناء الطائفة الدرزية وقد أدى ذلك كله إلى انتشار نزعة استقلالية لدى الدروز بعيداً عن مذاهب الفقهاء السائدة، وفي الجبال العالية أحيا الدروز رسالة العقل، وأضافوا إلى إشراق القرآن الكريم رحيق الفلسفة الفيثاغورية التي تعلي مجد الإنسان وكرامته وحريته حتى باتوا يعرفون في جبالهم العالية برجال الكرامة.

وفي مرحلة لاحقة رفض الأزهر الشريف فتوى ابن تيمية وأعاد الاعتبار للمذاهب الإسلامية الأخرى حارج السنة والجماعة،  وقد تبنى شيخ الأزهر محمود سلتوت موقفاً متسامحاً من المذاهب الإسلامية المختلفة وأكد على المشترك في التوحيد والنبوة، ووجود مشتركات كثيرة على الرغم من الاختلاف الظاهر، والامر نفسه كرره الشيخ أحمد كفتارو الذي قام بنفسه بزيارة أعشاش النسور في السويداء، وقد قمنا في مركز الدراسات الإسلامية بزيارة جبل عرنة وجبال الشوف وجبل السويداء وتعرفنا على تلك الأشراق اللاهبة المعجونة بالفلسفة والحكمة والنور.

نعم إن الموحدين مختلفون، ولديهم فلسفتهم وإشراقهم ورؤيته، ولكن ألا يكفي أن نلتقي على روح وطنية جامعة نجحت في الماضي في تقديم نماذج متقدمة في الوعي تأسست بها الدولة الوطنية المعينية والشهابية وظهر من أعلامها البارزين شكيب أرسلان وعلم الدين التنوخي وعز الدين التنوخي وأحيراً السلطان الباشا الأطرش الذي قاد ثورة السوريين إلى شاطئ الكرامة وواجه بخيوله ورجاله دبابات فرنسا وصار رمزاً للاستقلال والحرية.

إنهم اليوم يحملون الشعلة المتقدمة لثورة السوريين، ويعلنون أن سوريا واحدة لكل أبنائها، ويكررون في مسمع جيش البطش الكلمة التي قالوها في وجه ابراهيم باشا إبان حربه مع العثمانيين: ليس لدينا بنادق للإيجار، ولا يقاتل بنو معروف إلا في ارضهم وضد من قاتلهم!!.

إنها مناسبة وطنية ضرورية للحديث عن الرحيق الروحي الذي يحمله هؤلاء الفرسان المغامرون عبر تاريخ من الشهامة والمروءة والرجولة، ورياح نظيفة طاهرة في أعالي الجبال مشربة بروح الوطن الواحد ورجاله الأحرار.

المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها

%d مدونون معجبون بهذه: