
حمزة ابو حمدان
كاتب وصحفي سوري
الإذلال الممنهج للسوريين
قد لا نكون موفقين إذا انطلقنا من الحديث عن الاذلال ، في هذا التوقيت ، حيث الهبة الشعبية العارمة في السويداء ، وغيرها من المناطق السورية ، والتي تأتي كرد طبيعي عفوي ، على امعان النظام السوري في ممارسات الاذلال والقهر .
واذا كان الشيء بالشيء يذكر ، فلا بأس أن ننطلق من الأهزوجة الشعبية المتوارثة لدى أبناء السويداء ، وهي “خسى من قال عيشتنا ذليلة ” والأصح مع نهج الاذلال الممارس منذ عقود أن نقول “صدق من قال عيشتنا ذليلة ” . وهذا ليس للتقليل من مراد من يهتف لكن لتوصيف الواقع كما هو ليس إلا.
هذه هي الحقيقة الصارخة والفجة ، والتي قد لا تعجب الكثيرين .
لسنا في وارد تعداد مطارح الذل وتفاصيله التي تبدأ من أبسط مقومات الحياة الأدمية للسوريين ولا تنتهي عند حد معين . بل أكثر من ذلك ، من الذل أن نعدد تفاصيل الذل والقهر المعاشين في فترة الأسد الأب والابن ،وهو جعل السوريين يهذون بين موت معجل ، أو موت مؤجل .
بالعودة إلى موضوعنا ، فإن ” الإذلال سلوك يمارسه فرد، أو جماعة، أو سلطة، بحق آخرين، أفرادٍ أو جماعات، وحتى دول أخرى، بهدف التقليل من قيمة المُذَل وتبخيسه، والحط من كرامته. وغالبا ما يقع الإذلال في الوجه الآخر للغطرسة، أو لجنون العظمة، فالشخص المتعجرف هو الأكثر ميلا لإذلال الآخرين.
أما في المجتمعات التي يكون فيها الاذلال منهج متعمد ومعمم، وقانون لعلاقة السلطة بمواطنيها، فإنه يصبح تعويضاً للذات المحتقَرة، وآلية لتخفيف وقع المهانة التي تلحق بهذه الذات من أطراف أخرى، هكذا تصبح القدرة على الإذلال معيارا لقيمة الشخص، وإثباتاً لوجوده ولأهميته.
لقد عمل حافظ الأسد خلال العقد الأول من حكمه لسوريا بعد انقلابه العسكري 1970 ما يمكن أن نطلق عليه “مملكة الذل”
لتثبيت حكمه، فأضعف، وسحق كل ما يمكن أن يكون مصدر قوة قد تهدد سلطته المطلقة يوما، فلاحق الأحزاب، وأودعها السجون، ثم حلَّ النقابات، وهمّش الشخصيات الوطنية والدينية والاجتماعية التي لم تركب موجته، وبعد أن اطمأن إلى قوته وقدرته على سحق أي صوت معارض له، انتقل إلى الصيغة التي أرادها في علاقته مع الشعب السوري، وهي مرحلة الإذلال الصفيق لكل أفراد الشعب السوري، بما فيهم أولئك الذين ساندوه وصُنفوا على أنهم الصف الأول في مزرعة السلطة.
وللعلم فإن مملكة الذل ، أو مزرعته ، هي مملكة هرمية تراتبية يخترقها الذل من أسفلها إلى أعلاها، ولم يكن أمام أي سوري يريد أن يخفف من جرعة الإذلال التي يتجرعها كل يوم، إلا أن يقلل من عدد من يذلّوه، عبر قبوله بقانون هذه المملكة، وخضوعه لها، وعبر محاولته صعود درجات هذا الهرم. وهو مدرك أنه على الرغم من صعوده درجات هذا الهرم إلا أنه سيبقى مُذَّلا، لكنه بصعوده يتخفف من إذلال من تجاوزهم في صعوده، ويزيد من عدد من هو قادر على إذلالهم.
في مملكة الذل كان هناك مبدأ وحيد، لا كرامة لسوري- أي سوري- فقط من يخلصون له تخفف عنهم جرعة الذل.
لقد بدأت مسيرة ترسيخ الذل بالقمع أولاً، ليس لإسكات المختلف فقط ، بل لإذلاله وإرهابه وإرهاب الآخرين أيضا ، ثم تبدأ المراحل اللاحقة، والتي يُمكن تكثيف جوهرها كله بفكرة اذلال المجتمع وتفتيته عبر خلق وإشعال صراعات داخله، وعبر تعزيز العوامل المفتتة لوحدته والكامنة فيه، بحيث يُمكن للحاكم المستبد أن يستعملها متى يشاء، فيحتمي بها، ويتهرب بها من مسؤولياته حيال المجتمع والدولة، وتصبح شماعته لتبرير نهب الدولة والمجتمع وانهيارهما.
خلال عقود حكم الأسد الأب ، لم يكن أمام السوري ، إلا أن يختار بين الصمت أو الخضوع، بين السجن أو النفي أو الذل، بين الخنوع أو الجحيم. كان كل شيء يدار بتراتبية الذل (طلائع ، شبيبة ، طلبة، جيش ، أحزاب ، قضاء وثقافة وإعلام ، ودين ، كل ذلك كان لهدف واضح هو خلق سوري مرتبط مهان ومذلول.
اذا لم يكن قرار إذلال السوريين ، عارضا منذ البداية، بل كان ممنهجا ومدروسا ،كي لا يفكر أي سوري برفع رأسه أو صوته ،لهذا كان الاذلال علانية وفي وضح النهار.
يكفي أن تكون سوريا وتعيش في هذا البلد، لتكون عرضة للإذلال والتدجين منذ أول لحظة تدخل فيها المدرسة حيث سيرغمونك على ترديد شعاراتهم، وسترتدي اللباس الذي اختاروه لك، وسيقيسون طول شعرك واظافرك ، وستحفظ السير والانجازات الكاذبة، وستكتب عنها، وستصفق في مهرجانات تبجيلهم مرغما، ستحمل صورهم، وتهتف لهم، وستفعل كل ما يريدون وأنت ذليل مهان وخانع.
في الجامعة سوف يعيدون عليك فصول إذلالهم، وسوف تتيقن أكثر أن أحلامك لا معنى لها إن لم يوافقوا عليها، وأن لقمة خبزك القادمة سوف تكون عطاء ومكرمة ، أما في الجيش ستعرف جيدا كيف تُسحق كرامتك ويتم اذلالك !
عندما رفع السوريون صوتهم في ٢٠١١ يريدون كرامتهم المسلوبة، والعيش مثل سائر شعوب الأرض ، لم يكن أمام قادة مزرعة الذل إلا المسارعة بالحديد والنار لوأد هذه الأصوات لأنها تهدد مملكتهم.
قنصوا المتظاهرين، وأطلقوا عليهم الرصاص الحي، وسحلوهم في الشوارع، وارتكبوا المجازر بأهلهم وبلداتهم، واغتصبوا، ونهبوا، وهجّروا …
لم يكن الخوف من قوة المتظاهرين العسكرية، بل خشية تفشي الإحساس بالكرامة، لذلك زجوا بالجيش والمخابرات وميليشيا داعميهم في مواجهة الشعب.
لقد حاول بشار الأسد في بداية فترة التوريث الأولى، أن يظهر قليلا من المرونة ، لكن سرعان ما انقضت عليه دائرة المزرعة الضيقة ،أو قادة مملكة الذل ، محذرة إياه من مغبة هذا ، لأن السوريين سوف يتنفسون وعندها لا يمكن إخضاعهم واذلالهم .لهذا مضى الأسد على نهج تكريس الذل ، وعدم الانصات إلى صوت الشعب المقهور ، بل ذهب أبعد من ذلك عندما واجه شعبه بالقتل والاعتقال والتشريد .
ولأن الاذلال نهجا راسخا ، في مملكة الذل فإن كل الحكومات التي أتى الأسد الابن بها لاحقا ، عملت بأمرته على اذلال السوريين .
اليوم لا يريد بشار الأسد أن يخفف ولو قليلا من جرعة إذلال السوريين ، رغم ما قدم جمهور مؤيديه في سبيل كرسيه ، ومع كل قرار يتخذه ويتعلق بالشعب ، يقولها صراحة :
من يريد أن يبقى هنا ، فعليه أن يقبل بالذل ويقدم المزيد ،أو عليه أن يرحل ،فالوطن والقائد معنى واحد ،والوطن لمن يدافع عنه ،وليس مطلوبا من الوطن والقائد أي شي لهذا المواطن ، فهو يكفيه نعمة أنه باق في المزرعة .
ولتكريس المعايير الأسدية كان لا بد من تجويع السوريين، والمضي في اذلالهم
، ولم يكن أمام السوريين ، إلا الخضوع لقانون هذه المؤسسة، ودفع الخوّة لها، وتمجيدها، ولم يكن أمام الفقراء خصوصاً، ومن أجل لقمة الخبز إلا أن يكونوا عبيداً اذلاء .
في المحصلة تم زج البلد في أتون حرب لا وطنية هدفها إذلال الشعب وتجويعه وتهجيره وقتله، ومن أجل مواجهة شعب انتفض لنيل الحرية والكرامة تم دوس على حرية البلد وكرامته وهو يرزح اليوم تحت سيطرت خمسة احتلالات تعمل على تقسيم الشعب والأرض وتقلب لحمة نسيجه رأساً على عقب والهدف هو حب البقاء على حساب التطور والمسار التاريخي.
باختصار اعتاد السوريون مع الزمن على ظاهرة الخوف والرعب التي تَدرَب عليها النظام واتقنها كل العاملين الأمنيين لديه، الرعب والخوف المصنعين في كواليس النظام كانا مقدمات للرعب والإرهاب المجسدان في سنوات الحرب، والإرهاب الذي نتحدث عنه هو بمفهوم أرسطو الرعب بعينه، ويتجسد في الألم والفوضى والدمار والتهجير والمصادرات والقوانين التي حَمَت ممارسة ذلك أثناء المأساة، بعقودها قبل وبعد حركة الجماهير بوجه النظام، حالة الرعب زرعها النظام بواسطة التخدير واللعب على الوعي، لقد أخمد النظام طموح الجماهير بالتلاعب وبطرح الشعارات الزائفة مستخدماَ حس الجماهير الوطني.
إن النظرية التجريبية التي تمارس في سورية من أجل اكتشاف مدى قدرة الإنسان على التحمل لها حدود قد تؤدي للانفجار خارج حدود رتابة “المعارضة”، وهذا ما يحصل اليوم ،وإن المستوى الضاغط على حياة الناس وفي تنوعه السياسي والأخلاقي والمعاشي وصل إلى التخوم، وتدل المقاييس أن الارتفاع في مستوى التدمير مستمر ويجري إلى جانبه بالتوازي استهتار في بيع البلد واسناده الثابتة وثروات الشعب بما يشبه المزرعة الخاصة .
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها