
د. رياض نعسان آغا
وزير الثقافة السوري الاسبق
شعراء التغريبة السورية (البرقاوي شاعراً)
هذه أول مرة في التاريخ السوري يهاجر ملايين السوريين خارج بلدهم بحثاً عن الأمان ، ويتشردون في أصقاع الأرض، وهي المرة الأولى التي ينزح فيها ملايين السوريين إلى مخيمات اللجوء داخل بلدهم في مناطق يسمونها (المحرر) تاركين بيوتهم المهدمة وقراهم المدمرة ، هاربين إلى مناطق شبه آمنة في الشمال السوري أو الجنوب، ولكنها على صفيح ساخن.
سأختار قطرات وشذرات من ينابيع هذا الإبداع الشعري السوري، وأبدأ مع من يحمل في وجدانه مآسي تغريبتين معاصرتين هما الفلسطينية والسورية معاً، والسورية أشد رهقاً، إنه الفيلسوف وعميد كلية الفلسفة في جامعة دمشق سابقاً، وعميد بيت الفلسفة في دولة الإمارات حالياً، الدكتور أحد نسيم البرقاوي.
* وأحمد البرقاوي المولود في الهامة قرب دمشق عام 1950 لأسرة فلسطينية هاجرت إلى سورية خلال التغريبة الفلسطينية مشهور بكونه فيلسوفا، ولكنه في ذات مكانته الفلسفية أديب وناقد كبير، ولو أنه تفرغ للنقد الأدبي لكان الأول بين النقاد على مستوى رفيع، لكن شغله في الفلسفة وانشغاله بطرح أسئلتها المؤرقة لنا، جذبه إلى فضاء الشعر ليطلق أسئلته الكونية فيه، وقد اختار الشعر الحداثي وقصيدة النثر ليكثف فيها شعره الفلسفي، وأحسب أنه أهم من كتب شعراً فلسفياً في أدبنا الراهن، وقد أتاح له الشعر أن يحلق بمخيلة إبداعية ولاّدة ، وأن يبث من خلالها أفكاره ورؤيته للكون، وهو منفتح الأفق على من يخالفه فكرياً، وقد يختلف مع قارئه في بعض الرؤى الكونية (وأنا شخصياً ممن يخالفونه في وجهة نظره فلسفياً) لكنه لا أحد يختلف معه في أفكاره الأخلاقية التي دعته لاتخاذ موقف تاريخي في حياته، وهو الانحياز إلى الحق والكرامة والحرية، رغم الكلفة الباهظة في مواجهة التشرد والنزوح والرحيل وفقدان الموقع الوظيفي الرفيع.
لقد التقينا معاً في الشارقة، كما كنا نلتقي في دمشق، ولم يكن العمل الرسمي في الدولة يعني ولاء لأي ظلم أو استبداد أو طغيان، وإنا كان عملاً وطنياً وظيفياً اعتيادياً، في مسيرة نسعى فيها إلى الإصلاح حسب الممكن والمتاح، وكان طبيعياً أن يقف كل من يمتلك أخلاقاُ سامية ضد إراقة الدماء وقصف المدن والقرى والقتل والاعتقال.
كان موقف البرقاوي مهماً في قراءاته للأحداث المفجعة، وفي مواكبة تطوراتها عبر سيل خصب من مقالاته وكتبه، وتصدر شعرُه أدب الثورة وكتب عن البدايات قبل أن يرحل من دمشق، وقدم توثيقاً شعرياً لفظاعة ما حدث وهو يتابعه بألم وحرقة وحسرة من نوافذ بيته في المزة:
(صامت فجر المزة المطل على بساتين داريا
كما لو أنه آوى ليلاً إلى السرير متعباً
وراح في نوم عميق
أين أنت يا فجر حقول الصبار
التي اقتلعتها جرافات الخوف
لا نباح الكلاب، ولا زقزقة العصافير
ولا هسهسة الريح، لا شيء
سوى هدير المجنزرات المتعطشة إلى دماء داريا
وخوذ ترفع البنادق تحية لعبد لوح لها
من نافذته المرصعة بشعار القاتل
فرحاً بالموت
صامت مساء المزة
أي مساء هذا!
أتأمل هذا العالم الصارخ من قهر
تمر بخاطري كل آمالي القتيلة
تمر بخاطري امرأة مكلومة
كانت تتسكع على حبل المشنقة
تختزن بكل تفاصيلها العبقرية
حب الحياة والرفض
وامرأة تجيد الخيانة بكل كبرياء
وامرأة ترمي عاشقها في المحرقة
وامرأة تتضوع رقتها القاتلة في كل الأنحاء
وامرأة تخاف الله وغارقة في العشق
رغم كل الحنان الذي صنعني
ورغم أني لم أعرف الحرمان صغيراً
أو كبيراً
حضن دمشق ما عاد ينقذني من هذا الخواء.
أهرب إلى أمي الطبيعة
والطبيعة تبكي روحها المفقود
دموعها جافة
وقلبها متصدع
والدهشة تقتلها من أنياب الخلق
أيتها الأظافر المسمومة
جسدي جروح يأكلها القيح
وروحي نسيت نشيد الحياة
يتسلل العمر من بين الأسلاك الشائكة
هارباً من زنازين الحياة الصدئة
أتراك أفرغت كل ما في دنانك من خمور
وأسرفت في الحب والفرح بالوجود؟
لا يا دمشق، خائف أنا من وجود بلا وجود
لا رثاءً أو بكاء، وإنما
قلق أناي، من عدم لم تصنعه يداي).
لقد صور البرقاوي تفاصيل واقعية مما يحدث، ولكن القصيدة لم ترصد المجنزرات والقانصات ورحى المعارك ولو رمزياً، فمهمة الشعر أن يصف الأعماق الجريحة في الذات الإنسانية، وأن يتوغل داخل الأفكار القلقة المرتابة، فثمة امرأة مكلومة تتدلى على حبل مشنقة ،وأخرى ترمي عاشقها في المحرقة، وثمة شعور بالحرمان وحضن دمشق لم يعد قادراً أن يمنح الأمان، حتى العدم الذي يتفن وصفه الفيلسوف بات مهدداً بوجود بلا وجود، فالعدم الذي يرتمي فيه ليس من صنع يديه.
ولكن الفلسفة حاضرة دائماً في عقل الشاعر فكان لابد من أن يظهر بعض أساتذته أو أصدقائه الفلاسفة في ترنحه بين الوجود والعدم، يخاطب كانط :
(كانط يا جدي الأول
أنا الآخذ بوصيتك:
لو كانت سعادة العالمين بقتل طفل واحد عل هذه الأرض
لكان الفعل شريراً
وجلالةِ نقدك للعقل يا جدي
لم أقتل يوماً ما تدب فيه الحياة
حتى النملة الغارقة في بقعة ماء أنقذتها
ولم تشفع لي أختام حرَّاس حدودك أخلاقي
أتراني أنا المقتول أصير هو القاتل؟).
إنه شهادة براءة من كل من يقتل الحياة ، إنه الموقف الإنساني الأخلاقي، تلك هي وصية العقل، لو أن قتل طفل يملأ العالم سعادة لكان قتله جريمة وشراً، ويخاطب سارتر:
(سارتر
يا صاحب طرق الحرية قل لي
متى أكون موجوداً
دون أن أكون هوية مختومة بختم وعيهم لي
متى أصير لي وحدي
الكل في الغابة يراقبني
كأنني شيطان رجيم
سرقوا مني أسنية الشمس
وظلال أوراق الأشجار على جسدي
رقص الجداول وخريرها
يالصارخ والمتأفف من هذا الغثيان
جسدي رسمت سياطهم عليه أحقادهم
قلبي أثخنوه بجراحات كرههم
كي تضيق بي الدنيا
وآوي إلى وكرٍ أملاً بالنجاة
العسس العسس يلحق بي في وضح النهار
وفي العتمة
يعرفني من وقع خطاي
ويلاحق كلماتي ودروب أقلامي
اسمي موزع على كل مطارات الدنيا
كما صوري ونظرة عيني
وبصمات أصابعي العشر
أنا الوجود المطرود من سجلات الحق
وهويتي منبوذة من الأبعدين والأقربين
متى … متى قل لي يا صاحب “الذباب”
متى يسبقني وجودي
لكني والحريةِ التي تسكنني
آمالي ثابتة وكل وحوش الحقد
لن توقف رحلتي نحو الشمس ).
حقاً إنها رحلة نحو الشمس، نحو الضياء الأبدي، نحو النور والحرية، والخروج من حصار العسس وملاحقتهم، والبرقاوي الفلسطيني يشعر بقسوة حين يرتاب بوجوده دون هوية عليها ختم رسمي يعبر عن وعي الآخر به وهي مع ذلك هوية منبوذة لكونه فلسطينياً، والفيلسوف البرقاوي يخص مسرحية الذباب لسارتر لأنها نداء الحرية والإرادة معاً، ولكون البرقاوي نشأ صبوته في (نوى) في حوران حيث كان والداه مدرسيْن، فإن صخر حورن عزيز عليه، والصخر إشارة رمزية لصلابة أهل حوران، يقول:
(الصخر في حوران أزرق
يختزن الأخضر بين ضلوع قدها البركان
وغفا رابيةً ورُقّةً وينبوع حياة
الصخر في حوران روح النار
وروح النار لا تفنى
للصخر في حوران عيون
تبكي وتزهو وترى ثم تسقي
للصخر في حوران آذان تتمايل لهجيني الحصادين
وغناء الساريات إلى الجنى فجرا
وأهازيج الحصادين مع فجر الندي
الصخر في حوران حضن لاستراحة العشاق
وملجأ الكسّارين
وبيت الحاملين شعلة الخلاص
ومسكن الجن في الليل
الصخر في حوران وسادة الرعاة
وأريكة فلاح ينتظر السماء
للصخر في حوران أسماء وأسماء
وللأسماء معنى
للصخر في حوران ذاكرة لا تبلى
فلا تظن أن الصخر في حوران ينسى).
والقصيدة الصخرية هذه تحية معنوية لأهلنا في حوران روح النار (وروح النار لا تفنى) كما قال، ولا ينسى البرقاوي شهداء الشعب الذين قاوموا الظلم ودفعوا حياتهم ثمناً لينعم شعبهم بالحرية، يقول:
لا ،ليس موتك موتاً، وإنما ولادة الأمل المدمى
كيف نصل إليك بالكلام
والكلام مسافة تفصل بين الحزن العميق وصوته.
الرثاء أعجز من أن يصل إليك،
والمديح لا يليق بالفضاء الذي أسكنتنا فيه.
فتراجيديا الحزن تعاش، وتسكن الروح،
وهيهات لها أن تُقال.
ونبع المحبة فاض وجرى نهراً من الحزن والألم.
الحنجرة التي أهدت للريح ألحانها لن تفنى.
وصوتها لا يحب الصدى، فالصوت ينتشر في الشوارع العتيقة بكل نبرته الحقيقية،
فلا أصداء لصوتك، ولا ظلال لطلتك، بل حضور في الأرواح،
وولادة بكل كبريائك البهي .
لا ليس موتاً،
إن هو إلا التسامي أيها الساروت .
وها أنا أراك تخضب السماء بلون دمك.
وكل قطرة مطر ستسقط على أرضنا،
أغنية من أغاني سمائك.
لا ليس موتاً،
فلقد عشت في جفن الردى وهو متيقظ وأنت تدري،
وحين أغمض الردى جفنيه عليك
رفرفت بجناحيك طائراً تحوم إلى الأبد
فوق أرواح التائقين إلى الحرية.
لا، ليس موتاً.
وإنما احتفال المعنى النبيل باكتماله.
أجل اكتملت ماهيتك باتحادها الأبدي بوجودك.
ولن تقوى كل غيلان الشر
على محو اسمك ونوره الخلاق
من ذاكرة الوطن والحياة والكرامة.
وأبعد صرخات البرقاوي صدى تلك التي سماها صرخة الفلسطيني الدمشقي :
( شآميّ مسروقة مني يا زماني
ولكن قدميّ ثابتتان في السير على دروب الأمل
لا جنسية في بطاقة هويتي تمنحي حق الديمومة في المكان
ولا عندي جواز سفر دولة تخيف كي أتبغدد في المطارات
وأحلق في سماء العالم قوياً
لا شرعة تمنحني الحق في الوجود
غير أني صانع للوجود
أنا الدمشقي الهارب جلادها وطغامه
المشرد في الأرض اليباب
يُمنني ابن أمي بالحدب يوماً علي
أو يعيرني بقوله: كينونة بلا جذور
من ولادتي وأنا أنتظر تحت شجر الأجرد
شجر لم يقني حر الحرة ولا قر الشتاء
و ما ألقى علي من ثمر الحياة شيا
ويحاولون طردي من واحات الآمال المتجددة
خوفاً من العدوى.
ولست في معرض حديث نقدي لشعر البرقاوي، فحسبي هذا الطواف الجميل في فضائه الرحب، ورغم كوني أميل إلى القصيدة الخليلية أو شعر التفعيلة إلا أنني لا أنكر أهمية النبضة الشعرية الحية وراء كلمات الشاعر، وحين أرهف سمعي تسري موسيقى هذه النثرية الرائعة في أحاسيسي، وهذا الحدس الموسيقي الخفي لا يقدر عليه سوى شاعر متمكن من أدواته الشعرية ومن مضامينه الواضحة التي تستطيع أن تكتفي بالظاهر من معانيها، فإن شئت متعة أكبر تأمل ما وراء السطور، وتمعن بالإشارات والرموز، والحديث عن البرقاوي لا ينتهي لسعة أبعاده الفكرية، وأعترف أنني اخترت من أشعاره وقصائده أبسطها وما كتبه للناس جميعاً، لكن قصائده الفلسفية تحتاج إلى بحث مختلف، وأنا شديد الإعجاب بها، رغم أنني لست من مدرسة البرقاوي الفلسفية، لكننا معاً نتوافق في الموقف الأخلاقي والثوري.
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها