حمزة ابو حمدان

كاتب وصحفي سوري

انتفاضة السويداء تعيد احياء التراث وتوظفه سياسيا

يمتاز الشعب السوري بولعه الشديد في السياسة، وقدرته الفائقة على الغمز من قناتها، مستخدما كل ما في جعبته للتوظيف السياسي.

من أجدر من السوريين في التورية والغمز، لأنهم عاشوا القمع والخوف عبر عقود طويلة . لكنهم ومنذ ٢٠١١ وبعد أن حطموا حاجز الخوف ، بدؤوا يعبرون بملأ حريتهم عما يجول في خاطرهم ، وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على أن السوري ،بمجرد أن ينعم بالحرية يبدع ويتفوق ويصبح في المقدمة ،والأمثلة في بلاد التهجير والاغتراب تتحدث عن نفسها .

قد تكون السياسة بالنسبة لغالبية للسوريين خبزاً يومياً. فالسوري بغضّ النظر عن درجة تحصيله العلمي أو مهنته أو سويته الثقافية والمعرفية، يجيد تفسير كل الظواهر السياسية المحلّية والإقليمية والعالمية. وهو لا يفهمها فقط، إنما له مواقف منها.

في السويداء، سار المنتفضون على النهج نفسه ، وكأننا أمام الساروت وهتافات كفر نبل وحمص وغيرها ، ليس هذا فحسب ، بل طور أبناء السويداء أدواتهم وباتت ساحة الكرامة تزخر بكل الفنون، و ظهرت المواهب المبدعة لدى الشباب من رسم وفن وموسيقى، وجوفيات تعود لخمسينات القرن الماضي .

حاولت تقصي ما يحمله ويردده المتظاهرون ،  تابعت باهتمام وتمعن لأكثر من يوم ، عدت إلى ما نشر لعله قد فاتني شيء ، حقيقة لم اسمع الطروحات الطائفية والمناطقية والانفصالية إلا من البعثيين المندحرين ومن لف لفيفهم ، بينما لافتات وخطاب ساحة الكرامة كان خطابا جامعا يدعو للوحدة المتمسك بمبادئ ثورة ٢٠١١.

وهنا أتذكر بعضا مما قاله الشاعر محمود السيد الدغيم :

“مَنْ قَاْلَ: إِنَّ الْبَعْثَ يَسْمَحُ بِالَّذِيْ…    يَجْرِيْ لِتَجْرِيَ فِي الْبِلاْدِ دِمَاْءُ؟؟

فَإِذَاْ بِحِزْبِ الْبَعْثِ يُمْسِيْ لُعْبَةً …….       هِيَ لِلْعَسَاْكِرِ رَشْوَةٌ وَعَطَاْءُ

نُوَاْبُنَاْ أَنْذَاْلُنَاْ وَلُصُوْصُنَاْ ……            حَكَمُوْا فَدَاْسَ حُقُوْقَنَا الْحُقَرَاْءُ

يَاْ أَيُّهَا الْخِلُّ الْوَفِيُّ!! أَنَا الَّذِيْ ……      مَاْ زِلْتُ أَحْدُو، وَالْحَيَاْةُ حُدَاْءُ.”

في ساحة الكرامة ثمة إبداع في وصف المعاناة وإحياء للتراث، أهازيج تطرب لها الآذان، وتعيدنا إلى زمن مضى وتحاكي الحاضر وعينها على المستقبل. والجميل في الموضوع أن أعراس السويداء كلها إلى اليوم تغني هذه الاهازيج والأغاني الوطنية المستلهمة من التراث، ولهذا السبب الجميع يحفظ هذه الأغاني، لكن الشباب في الساحات أعطوا لهذه الاهازيج حلل جديدة على اللحن نفسه والقافية نفسها.

منذ اليوم الأول لاندلاع الحراك الشعبي أواخر اب الماضي، ابتكر الناشطون أغنية من وحي التراث تقول:”نزل يقطف نعناعو  بومرهف لا ترجعوا (أبو مرهف هو أمين فرع حزب البعث في السويداء فوزات شقير وهو ضابط سابق متقاعد  ) وقد جاءت الأغنية في اعقاب اقفال أبواب الفرع بالحديد . تضيف الأغنية: “بابك نلحم وتسكر والبعثية يرجعوا “.

كما ردد المتظاهرون أغنية “لا كتب ورق وارسلك….. أرحل عنا أحسنلك.”

لكن من أكثر الاهازيج التي لاقت أصداء ورددوها المتظاهرون بحماس كانت، “صاح الصايح وطب الاسد خوف” كما شهدت ساحة الكرامة عودة لافتة إلى مطالب الثورة، وأبرزها “إسقاط النظام”.

وردد المتظاهرون الشعارات الأولى في الثورة السورية التي كانت بدأت في ربيع عام 2011.

من بين أبرز الشعارات التي رفعها المتظاهرون خلال احتجاجات، “”يلا ارحل يا بشار” و”سورية بلا حزب البعث غير ، كذلك هتف المتظاهرون “سورية حرة حرة.. بشار يطلع برا” .

الجدير بالذكر والاهتمام بأن معا، إن جلّ المشاركين في المظاهرات، هم من جيل الشباب الذين كبروا خلال عقد من المذبحة ، يصدحون بنفس الأهازيج والشعارات ويحييون باقي المدن السورية ، ويؤكدون على وحدة الدّم السوريّ في ظاهرة تؤكد أن النهايات المكتوبة بالدم وبسلب حقوق الشعوب هي بدايات مزهرة لجيلٍ جديد يرفض ما كتب وقرر أن يعيد البدايات كما يشتهي.

اللافت أيضا في هذه الاهازيج والشعارات، انها تنبع بعفوية من جيل اعتقدنا أنه بعد عن التراث، حيث لا توجد ماكينة إعلامية تدبج الشعارات والمقولات، أو اشخاص مختصون يبتكرون شعارات على غرار تلك التي كانت تفرض في أيام حافظ الأسد حيث كانت هناك ماكينة إعلامية ضخمة تنتج الشعارات والهتافات المناسبة لكل حدَث ومرحلة في حياة السوريين عموماً.

ليس من قبيل المبالغة القول؛ إن مظاهرات السويداء هي تجسيد جديد لثورة آذار 2011 من خلال طبيعة الشعارات والمطالب التي برزت في الاحتجاجات “كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، لحظة نضوج الوعي السياسيّ ووجود بصمة جديدة من “رسائل التطمينات الجامعة مع رفع علم الثورة جنبا إلى جنب مع راية التوحيد، وكأن لسان الحال يقول بصدق وعفوية :” نحن بما نحن عليه مع ما يريده كل السوريون ” .

بالعودة إلى شعارات النظام ، فقد كان وزير الإعلام السوري الأسبق أحمد إسكندر أحمد، هو من ابتدع نهج عبادة شخص حافظ الأسد وفق باتريك سيل في كتابه الصراع على سورية ، وكانت كل محافظة تبتدع هتافات من وحي تراثها

وردّدها السوريون طيلة 30 عاما في المسيرات “الطوعية” التي يخرجون فيها “عفوياً”، لإعلان الولاء وتجديد البيعة “للقائد التاريخي”. فبالإضافة إلى الهتافات والأهازيج كان لدى السوري معجم كامل من الشعارات التي ضاقت بها الجدران وواجهات المحال والأبنية الحكومية، وحتى السيارات العامة والخاصة، وشكالات المفاتيح، التي كانت تمجّد “القائد المُلهَم” وتُظهر له الولاء والتقديس.

الفارق اليوم، أن هؤلاء الناس هم من يهتفون من تلقاء أنفسهم، شعارات الحرية و الثورة، وهم أناس بسطاء، كانوا متابعين للثورة بكل تفاصيلها، يتحركون وينزلون إلى الساحات بمحض حريتهم، بل يرددون الاهازيج المبتكرة بكل حب، ما الرقص على أنغام الساروت وترديد الأهازيج الثورية ، الا دليلا على عشق هالترانيم بكل مفرداتها .

“جنة جنة… سوريا يا وطنا

يا وطن يا حبيبب يا بو قليب طيب حتى نارك جنة.”

هتافات القاشوس وإسم الساروت وخلدون تملأ سماء السويداء. ومن الهتافات التي تعيدنا إلى أيام الثورة الأولى:

“بالحق بالدين بدنا المعتقلين”. عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد”..

السويداء اليوم ،ليست سويداء عصام زهر الدين أو لونا الشبل، هي سويداء سوريا كلها ،وهذاما يؤكد عليه المتظاهرون :” ما في للأبد ما في للأبد… عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد.” “سوريا لينا وما هي لبيت الأسد. شعار من قلب الثورة أما بخصوص تغلغل إيران من خلال اوسخ المداخل. وجب على المتظاهرين التذكير والنداء وبالصوت العالي :”سوريا حرة حرة إيران برا برا.

ساحة الكرامة وسط السويداء تحولت إلى منتدى مفتوح، للاحتجاجات، والموسيقى، والفن، السياسة والحرية وحتى للتراث والقهوة المرة والخيول العربية، في فنائها تصدح بشكل يومي على مدار ثلاثة أسابيع أغاني وأهازيج ثورية للتعبير عن وحدة المطالب مناشدة الجميع الوقوف مع السويداء ونصرتها:”يا دمشق ويا حلب… الحرية صارت ع الباب. نحنا مشينا وما في خوف”

فن، لافتات، لوحات، موسيقى، وزراعة. مظاهرٌ راقية في ساحة الكرامة، حيث تصدح الأصوات كل يوم، للمطالبة بالحرية، والعدالة، والتغيير السياسي.

كما سجلت النساء حضورا لافتا في المظاهرات حيث ارتدينا في أحد الايام الزي الشعبي ، وصدحت حناجرهن

 بالهتافات الشعبية، ورحن يرددنا أيضا أغنية جديدة من وحي التراث تقول :” حيو النفوس الأبية …حب الوطن يرضعونه.

زغردت كل نشمية …للأبطال اللي يضحونا

حي أحرارك سورية …حب الوطن يرضعونا.”

الاهازيج الشعبية التي يتم ترديدها اليوم ، في ساحة الكرامة وقرى السويداء ، معظمها قيلت أيام الاحتلال الفرنسي

ووضع الشعب السوري اليوم ، لا يختلف عن السابق فقد تم اذلاله وافقاره واهانة جميع فئات شعبه وتسليم مقدراته للمستعمرين الجدد بواسطة حكامه الذين مضى على حكمهم خمسة عقود كامله .

واذا كان سلطان باشا الاطرش انتصر على الفرنسيين، فان هذا النصر كان ثمرة  وقوف جميع ابناء سوريا الشرفاء والقادة الوطنيين معه ، هؤلاء الأبطال الذين ضحوا بالغالي والرخيص من اجل نصرة وخلاص وطنهم من الاستعمار والظلم والتبعية .

اليوم، فإما ان تنتج هذه اللحظة خلاصا وحرية كامله للشعب السوري، كما حصل في ثورات السوريين عبر التاريخ، أو يجري اجهاضها بواسطة ابنائها أنفسهم ، اذا ما تقاعسوا أو ترددوا في الوقوف مع اخوتهم المنتفضين في السويداء ..

المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها

%d مدونون معجبون بهذه: