
حمزة ابو حمدان
كاتب وصحفي سوري
الهوية الوطنية والانتماءات الفرعية
من الطبيعي مع استطالة الازمة في سوريا ، وتشابكها وتعقدها ، وتعدد الأطراف المتدخلة فيها ،أن تبقى الأمور على تعقيدها ؛ كما أنه من الطبيعي أيضا مع كل هذا الوقت ،ان ييقى حاضرا بقوة نقاشٌ الهوية.
فجدل هذه الهوية يكاد يكون هو القاعدة وليس الاستثناء ،وهذا ليس وقفا على سوريا وحدها بل لدى جميع الشعوب.
وللحديث عن هذا الأمر لا مفر من طرح سؤال الهوية على التاريخ، فكل الشعوب من دون استثناء طورت هويتها الحديثة ، دون انتزاعها من سياقها التاريخي، أي دون التنكّر للتاريخ، وفي بعض الدول التي تشكلت على أنقاض إمبراطوريات قديمة، أُجبرتها الأوضاع على (تعديل) هوية الأمة بما يناسب مصلحة بقاء نواة هذه الأمة، وبما يحول دون إعادة توحيد الجهود الاستعمارية لتفكيكها مجددًا والنيل من هويتها ، لذلك عملت تركيا مثلا ، على إعادة الاحترام لهويتها التاريخية، دون التنكر لهويتها الأتاتوركية الحديثة أي أعادت وصل هويتها الحديثة بتاريخها مجددًا. فبناء الهوية عملية تراكمية لا ينبغي تحويلها لساحة صراع عدمي، وإنما لحالة نقد بناء مثمر وتغيير نحو الأفضل بالاستفادة من تجارب الماضي والحاضر. فمن غير الممكن طرح نقاش الهوية بمعزل عن تاريخها، ونحن لسنا استثناء في هذه الحالة، ولسنا استثناء أيضًا في وجود جدل هوياتي.
من هذا المنطلق شكل موضوع الهوية الوطنية السورية ، أحد أخطر المسائل ، وإثارة للجدل والسجال والنقاش الحاد ، فهذا الموضوع اثار ، ولايزال جملة اشكالات سياسية بالدرجة الأولى ، واجتماعية واقتصادية وفكرية وثقافية، ولاسيما في مجتمع كالمجتمع السوري ، يعيش أوضاعا مضطربة ،أو حراكات بالنظر لما يمتاز به هذا المجتمع من تنوع قومي ومذهبي وديني وعشائري .
والسؤال البديهي لماذا يعاني مجتمعنا من اشكالات سياسية بالدرجة الاولى ؟
لأن موضوع الهوية الوطنية في سوريا ، أقله في العقود السبعة الاخيرة ،لم يكن مثار اهتمام ،أو يشغل النظام السياسي ،إضافة إلى عوامل الظروف والمناخات السياسية التي لعبت دورا كبيرا وفاعلا ،إلى جانب عوامل أخرى مكملة لها في بلورة وتعزيز الهوية الوطنية ،أو اضعافها وتغييبها لصالح هويات فرعية وقومية أو دينية أو مذهبية أو مناطقية.
“ربما كان سؤال الهوية الذي فجّرته الثورة السورية واحدًا من أصعب الأسئلة التي نخشى الإجابة عليها، بل أهمّ هذه الأسئلة: من نحن؟ وما الذي ينطوي عليه تنوّعنا “المُبهم” هذا؟ كيف لنا أن نحتفي بالتنوّع من دون أن نكون “طائفيين”؟
وقبل أن نجيب على السؤال حول كيفيّة إحداث هذا التوازن، ربما يتعيّن علينا التطرق إلى السؤال المركزي : ما المانع من بناء هوية وطنية سورية جامعة، قائمة على المواطنة المتساوية من جهة، من دون إغفال الهويات الثقافية الخاصة من جهة أخرى “.؟
في الاجابة السريعة يمكن القول ؛ إنه ونظرا لعدم تبلور هوية وطنية سورية جامعة وناجزة ، فقد كان من الطبيعي أن تتصاعد هويات قديمة دينية وطائفية وعشائرية وقبلية، وأيضاً هويّات قومية.
قد تصطدم الهويتان المذكورتان طبعًا في لحظة ما، وقد يظهر تناقض في بعض المواضع، وهنا تحديدًا يظهر دور النخب المثقفة والقوى المعارضة ، في المواءمة والتوازن، بما يحفظ حقوق المواطنة الفردية، ويحمي الهوية الثقافية المحلية في آن.
والسؤال نفسه تفجر مع اندلاع حراك السويداء قبل ثلاثة أشهر ، هل ما قام به المشاركون، في الحراك تأكيد على هوية محليّة منسجمة مع هويّة وطنية جامعة؟ أم أنه ينطوي على تعصب لهوية محلية ؟
والحال ليس مستغربا أن يتوجس أبناء المحافظات السورية، ويشككون في حراك أبناء السويداء ،ويحجمون عن دعمه، وهو الشعور نفسه الذي سبق أن انتاب أبناء السويداء في عام ٢٠١١ .ورغم هذا الاحساس ،لم تتوان السويداء عن دعم الثورة السورية بطريقتها الخاصة عبر العديد من المحطات في السنوات اللاحقة ، وصولا إلى الحراك الاخير المستمر ، بزخم أقل اليوم ،حيث طغت عليه أحداث محلية وإقليمية،ولم يعد في دائرة الاهتمام .
وفي استيضاح أسباب تأخر ظهور هوية وطنية ، يمكن القول : إن نظام البعث -ليس وحده لكنه يتحمل الجزء الأكبر – عمل طيلة فترة استيلائه الطويلة على السلطة ، على ترسيخ البنى التقليدية، رغم شعاراته التقدّمية والاشتراكية والتحرّرية، خاصة بعد السبعينات، أي بعد ترسيخ الديكتاتورية، حيث بات كلّ فكره مجرد شعارات، ليس هذا فحسب ،بل صارت الهوية الوطنية ، تمنح أو تُسحب من الأفراد، حسب الولاء لنظام الأسد الأب، الذي بات شمولياً.
أي يمكن القول ؛ إن الهوية السورية في ظل نظام الأسد باتت مبنية على الولاء، في دولة الولاء ،عبر اعتماد تحاصص طائفي وعشائري وقومي ، في كل دوائر الدولة ونقاباتها ، وفي الحزب نفسه. واستغل النظام هذه البنى في قمع معارضيه مرات عديدة، في حرب الثمانينات ضد الإخوان، وفي انتفاضة الأكراد 2004، وفي الثورة السورية، ولاحقا في حراك السويداء عبر وصم هذا الحراك بالطائفي والارتباط بالخارج ونزعة الانفصال.
هذا جزءٌ من سياسة النظام وممارساته ، للتفرد في الحكم، ليبقى هو الضامن الأوحد لتماسك تلك البنى القديمة، وتخويفها من التفجّر ضدّ بعضها.
كما يمكن الإشارة ايضا إلى أنه مع استلام حافظ الأسد للسلطة، وميله إلى التفرد بها على مراحل، انتهى حكم البعث إلى حكم الدولة الأمنية، وما يرافقها من فساد وميل إلى النهب، خاصة من الفئات الحزبية التي أتت من أصول مهمشة وأظهرت ميلاً إلى النهب واستغلال المناصب، وبالتالي تفشّى الفساد والمحسوبية والبيروقراطية، التي كانت ضرورية لاستمرار هذا النهب، مع استمرار مراعاة التوزيع الطائفي ضمن مؤسسات الدولة. من هنا توقفت أية إمكانية للتطور والتحديث، وبات بناء علاقات مجتمعية يقوم على الفرد ، بدلاً من الطائفة والمذهب والعرق والقومية. ولم يتحقق القطع مع البنى التقليدية المتخلفة، وبات من السهل العودة إليها بقوة، وهو ما ظهر خلال الثورة السورية.
مع قدوم الأسد الإبن إلى الحكم ؛ تحول البعث إلى واجهة فقط ،و تم استغلال ، كل تناقضات المجتمع السوري لترسيخ حكمه، عبر مجموعة من التحالفات السياسية والاقتصادية والأمنية، والتي تعرضت لإعادة هيكلة وتحول النظام بالكامل إلى حكم مافيا عائلية، هذا أدى إلى المزيد من عدم الإحساس بالأمان لدى الفئات المهمّشة بما فيها التي استفادت من فترة الستينيات، والتي ارتدّت إلى بناها التقليدية، من أجل الحصول على الأمان الاجتماعي، وبالتالي تصاعدت الهويات الدينية ، سواء الطائفية أو الإسلامية، وكذلك تصاعدت الهويات القومية من غير العربية.
اليوم عُمرُ انتفاضة الشعب السوري ثلاثة عشر عاماً ونحن نتضاعف تسميات ودكاكين ومجموعات، نتضاعف ونتوالد من بعضنا البعض مشكلين ذُرِيات متناحرة لا تبتعد عن بعضها كثيراً، في زمن يحتاج الشعب السوري وثورته غير ذلك.
بمعنى آخر هذا التذرر والهويات الفرعية ليس بمقدورها بناء هوية وطنية ،لأن مجال عمل وتأثير واهتمام هذه الهويات يدور في الحيز الاجتماعي ( المجتمع) وليس الحيز السياسي (الدولة ).
وحتى نتمكن من بناء هوية وطنية لا بد أن يقـر السـوريون بـأن سـورية وطنهـم النهائـي، وهـذا يرتـب الانطـلاق مـن الواقـع السـوري، بــكل مكوناتــه والاعتــراف بحقيقتــه وحقوقــه، في إطــار وحدتــه الجغرافيــة والبشريــة.
ختاما ، غياب الهوية الوطنية الجامعة والتشتت الذي نعيشه اليوم، ما هو إلا حصيلة سياسات خاطئة متراكمة، ليس منذ أن استلم حافظ الأسد السلطة فقط، بل هنالك مشكلات لم توجد لها الحلول الملائمة منذ ما قبل الاستقلال أيضًا، غير أنّ الأوضاع التي أتيحت لنظام الأسد لم تكن متاحة لكل الذين جاؤوا قبله، ما يجعله يتحمل جزءًا كبيرا من المسؤولية التاريخية في إعاقة تشكيل الهوية الوطنية السورية.
وعليه ، لا يمكن إعادة التأسيس لهوية وطنية ولمواطنة حديثة في سورية، من دون معالجة المشكلات الاجتماعية التي نتجت عنها الأزمات السياسية ثم الانهيار المجتمعي الذي نشاهده اليوم، وهذا يتطلب معالجة ذات خصوصية تتوافق مع خصوصية المجتمع السوري.
الواقع يطرح الأسئلة وعلينا بجهد فكري إيجاد الإجابات المناسبة للدفع إلى الأمام، وأصعب الطرق تلك التي يتصدرها سؤال من أين نبدأ؟
في مرحلة تعتبر من أخطر المراحل التي يمر بها بلدنا الذي يخضع إلى عملية تفكيك من جديد منعاً من انتصار قوى التغيير فيه وخاصة أثناء المخاض الجديد الذي تعرض له أكثر من بلد عربي.
هدف العولمة التفكيك وهذا يتطلب تثبيت الطائفية والمذهبية الدينية وحتى الأثنية، ويتقاطع هذا مع ما يمارسه الاستبداد من جهة وما يطرحه الإسلاميون المتشددون من جهة أخرى بطرفيهما (السني والشيعي), وهذا يعزز مسار التفكيك ويضعف وحدة جهد قوى التغيير، علينا دراسة التجربة المريرة التي نعيشها على أرض الواقع وإن كان من الضروري جدًا الاستفادة والاقتباس والبحث عما هو مناسب لنا في تجارب المجتمعات الأخرى، إلا أنه من الخاطئ جدًا أيضًا تجاهل الفوارق والسياقات التاريخية لكل تجربة.
المقالات المنشورة ضمن موقع المجلس العسكري السوري لا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس, انما تعبر عن رأي كاتبها